من القضايا المشتركة بين الجمال والبلاغة 1
د. يسري عبد الغني عبد الله
من المجالات التي تحسب أنها توثّق الصلة بين البحوث الجمالية والبلاغية أو الأدبية والنقدية ، مجال قضايا البحث المشتركة بينهما، والمتشابهة فيهما، والتي نحاول أن نورد بعضاً منها في هذه السطور المتواضعة.
ومن بين هذه القضايا قضية الجميل أو البليغ، وهل يكمن الجمال في المادة المصوّرة أم في الصوغ والتصوير؟
قديماً، أرجع الفيلسوف اليوناني أرسطو جمال العمل الفنّي إلى نجاح المحاكاة، بغضّ النظر عن المحكي، جميلاً كان أم قبيحاً.
وهو يقول في «البويطيقا»: والسبب في أن الناس يستمتعون برؤية الشبه هو أنهم بتأملهم فيه يجدون أنفسهم يتعلمون، ويستنبطون الأفكار، وربما يقولون: آه، هذا هو ذلك، لأنه إذا حدث أنك لم ترَ الأصل فإن المتعة أن يكون سببها التقليد، إنما هي ترجع إلى الاتفاق أو المرونة، أو أي شيء آخر من هذا القبيل.
ويتساءل بلوتال: هل من الممكن أن يصير ما هو قبيح في حدّ ذاته جميلاً في الفن؟ فإذا أجبنا بنعم، فهل يكون العمل موافقاً ومناسباً أصله؟ وإذا كان لا، فكيف يحدث أننا نعجب بهذه المحاكاة في الحقيقة؟.
إن الشيء القبيح لا يمكن، كما يرى بلوتال أن يصير جميلاً، ولكن المحاكاة تثير إعجابنا عندما تكون مطابقة، فالجمال والمحاكاة الجميلة هما شيئان مختلفان تمام الاختلاف.
وهنا ما يزال بلوتال مثل أرسطو يتكلم عن استجابة ذهننا لمهارة الفنان وذكائه، في حين أنه من المهم أولاً وقبل كل شيء، أن يكلمنا عن العلاقة بين الفنان، وأهمية الأشياء التي يصورها، أنه كما ينقل إلينا الشيء الجميل، في نظرنا ن أو كما هو معروف لنا أيضاً، والمتعة التي تحصل لنا بسبب مهارة الفنان في نقل القبح في طيها ضمناً: أن ما هو قبيح كل القبح، ولكنه معجب في الفن، فيه شيء يستطيع الإدراك أن يفهمه على أنه جميل، وهذا الإدراك بطبيعة الحال هو إدراك الفنان أولاً، وإدراك المستمع ثانياً.
وقد عارض لسنج في إدخال القبح في ميدان العمل الفني على أساس أن مهارة المحاكاة لا تمنع من قبح الصورة التي تحكي القبيح.
وحاول شلر أن يستبعد كلمة الجمال من ميدان الفن، وذلك لما تحدثة من وجهة نظره من اختلاط في العقول، فالناس يعجبون مثلاً بتمثال أبولو، ويعجبون كذلك بتمثال لاوكون، ومحتوى الأول يكفي لأن يجعله جميلاً بعكس الثاني.
وكذلك الشأن في الشعر فليس الجمال إذن في المحتوى، ولكنه في طريقة العلاج، ويقترح أن نستبدل. على هذا الأساس، كلمة الصدق في أكمل معانيها بكلمة الجمال. الخلاف إذن في أي الشيئين يكون مصدر الجمال: الصياغة أم المحتوى؟ والاتجاه الغالب هو أن الصياغة والتصوير والفن الرفيع عموماً هو مصدر الجمال والمتعة، فإذا ما أضيف إلى ذلك جمال المحتوى ازداد الأمر جمالاً على جمال.
الأمر نفسه نجده في اتجاهات البلغاء والنقاد، فهذا هو الجاحظ يثور معترضاً على أبي عمرو الشيباني لتفضيله أبياتاً من الشعر، لأن معناها محكم مع أنها خالية من التصوير الشعري الجميل، وكان أبو عمرو قد استحسن قول القائل:
لا تحسبنّ الموت موت البلى
فإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا
أفظع من ذاك لذلّ السؤال.
فعلّق الجاحظ عليه بقوله: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي.
ثم يقول الجاحظ: فإنما الشعر صياغة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير.
فظاهر كلام الجاحظ أن الشعر مقصور على الصياغة والنسيج والتصوير، وقلنا: ظاهر الكلام من العبارة، لأن الجاحظ في نظرته الممتدة الواعية يريد من التصوير اللفظ والمعنى معاً، كما هو معروف لنا في نظرية النظم أو البنائية التي تعالج القضية نفسها: المحتوى أم الصياغة؟
والذي يكاد ينطق بمفهوم الفلاسفة في هذه القضية هو: الحسن بن بشر الآمدي، في كتابه «الموازنة بين أبي تمّام والبحتري»، فهو يفضل التصوير الجيد، فإذا قام التصوير على معنى لطيف، أو أدب حسن، فذلك بما يزيد في بهاء الكلام.
يرى الآمدي أن الشعر عند أهل النقد والأدب والخبراء به، إلا حسن إبداعه وصناعته، و بشرط سهولته ووضوحه، ما يؤدي إلى فهمه وإدراكه من جانب القارئ والسامع، ويكون ذلك أيضاً باختيار الكلام المعبر، ووضع الألفاظ في مواضعها المناسبة، فإن اتفق مع هذا معنى جميل، أو حكمة صادقة مفيدة، أو أدب يهذب ويوجه، فذلك إضافة إلى جلال الكلام وجماله.
يقول الآمدي: إن الشعر ليس عند أهل العلم به إلا حسن التأني، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، فإن اتفق مع هذا معنى لطيف أو حكمة غريبة، أو أدب حسن، فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه، واستغنى عما سواه.
والذي يفصل في هذه القضية ويوضحها تمام الوضوح، ويكشف عنها كل غموض، ويزيل عنها كل لبس هو إمام البلاغة عبد القاهر الجرجاني الذي يضع يد القارئ على مواطن اللبس، فيميز بين أن يقصد القارئ إلى أن يوازن بين معنى ومعنى، أو بين صناعة وصناعة.
فإذا كان القصد إلى الموازنة بين المعاني فلا مانع في هذه الحالة من النظر إلى المحتوى المضمون ، أما إذا كان القصد الموازنة بين صناعة وصناعة، فلا بد في ذلك من النظر إلى الصياغة والتصوير في المقام الأول، فإذا نظر الناقد ـ والحالة هذه إلى المحتوى، وترك الفن والتصوير ـ فإنه يكون قد أخطأ لأنه طلب الشيء من غير موطنه، ووضع الشيء في غير موضعه.
يقول عبد القاهر: واعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدباً أو حكمة، وكان غريباً نادراً، فهو أشرف مما ليس كذلك، بل عابوه من حيث كان كمن حكم أو قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص، ألا يعتبر في قضيته تلك إلا الأوصاف التي تخص ذلك الجنس، وترجع إلى حقيقته، وألا ينظر فيها إلى جنس آخر، وإن كان من الأول بسبيل أو متصلاً به اتصاله ما لا ينفك منه.
ومعلوم أن سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه، كالذهب والفضة يصاغ منهما خاتم أو سوار.
ويواصل الجرجاني في كتابه المهم «دلائل الإعجاز» حديثه قائلاً: فكما أن محالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة، أو الذهب الذي وقع فيه العمل، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه.
باحث مصري