جوارح حورية
ميراي أبو حمدان
وهبطت حوريّة الحلم النديّ، وصاحبة القنا الرديّ، حاملة لواء النصر الأذيّ، فابتسمت في وجه الوعد الرازخ تحت وطأة الشجن، ووابل الفتن، وضمرت الشرّ في مكامن العِدا، واستقلّت ركب الضنى.
فتراءى العشق قاهراً ربوع الأمان، جاثماً بين دفّتيّ الصديقين الودودين، وبدأ يلهو بخمائل الجدول البهيّ، ويعبث بزبد الماء النقيّ، فيرتوي من بوارق الأمل البعيد.
وتصاعد دخان الأعادي في ساحة قنا البوادي… وكُتبت أندلسيات في محبرة خلّدت تاريخ القصور الشاهقات وندى الجميلات الحالمات، فترنّحت الأمنيات بين تيجان الإبداع تبوح بعشق التوأمين الصديقين، فولّدت جماد المودّة والمحبّة، وعانقت أرجوحة غدر الأهلّة، وزرعت سموم الشقاق في أفئدة أخلص البَرِيّة، وتباعدت روحاهما وتناجت موبّخة سقطة قلبيهما في بركان حوريتهما.
هل عاتب الصديقان خيانة القدر؟ أم للقدر براثن خبيثة غيّرت أنامله الزكيّة؟ وكيف للقدر أن ينشر الكيد إذا اكتنز المرء نضال المروءة والسجيّة؟ هو القدر خيبة وبليّة.
لو نطق القدر لدحض الغدر، وسجنه في قعر الجحيم فيعيش في حلم النعيم… وتدارك الصديقان نقمة الحوريّة البخيسة، وزيف بريق عينيها الساحرتين، ولؤم شفتيها الجذابتين، وأعاصير الخصومة تمايلت مع شلّالات شعرها المنسدل على أكتاف حملت عليها أحمالاً زائفة. حينذاك جلسا على أعلى رابية، يتأمّلان بهاء القمر ونضارته في تلك الليلة، ويتهامسان أحاديث مضت. فأومض المكان نوراً وأملاً، وتأرجح الحنين شوقاً إلى أيام خلت قد لفّها الأنس والألفة.
أتذكر يا صديقي كانت لؤلؤة السماء تداعب أفكارنا في كلّ ليلة وتغمز بالدِّعة ألحان السكينة، وتساور أفكارنا شذرات الندى. قالها صاحب الوجه النقيّ والروح الهادئة وسبح في يمّ من الندم والألم.
أتدري، كانت طفولتنا تركن إلى جانب الأيام الجميلة، وصداقتنا تحبو نحو الأفق الواسع، فترفرف فوق رأسينا صداقة العمر، ولا يفرّقنا سوى الردى المدقع، والسحاب الجاني.
نظر الصديق الظمآن صاحب الروح الغيّور والثغر القنوع إلى جبهة صديقه وأجابه: ما زال الجرح يثخن في ربوع فؤادي ويغفو متألّماً، ويشدو متثاقلاً، ويلوذ هارباً من صقيع العتاب وحرقة البكاء على أذيّة الصديق الذي تدفّأت بحرارة حنينه. أنت الرفيق المستقرّ، وأنت هبة اللحظات وأنت عافية الزهر.
بهدوء ضحكا فتبلّلت وجنتاهما بدموع حارقة كادت تلامس قلوباً غافية في أجساد صافية، وروحاً هانئة، ومحبة جارفة… وفي ردهة الوئام وينبوع السلام، صفق الريح نحو سحابات السماء الحالمات، ولوّح النسيم تحت الجمر الغافيات، فغزلت الأنجم اللامعات في سماء الأصالة الوادعة. عندئذٍ وقفا مسندَيْن على حافة الهاوية، سابحَيْن في لجج الملامة، وبراكين العذاب يعضّان على البنان أسفاً على أحلام غابت في ثنايا الجفاء، وجعلتهما جاثمَيْن أمام خيارَيْن إما غرسة سهم مسموم أو وفاء دهر مبتور، وفي الحالتين همّ وقهر. وتراءى للصديقين طيف الهجوع في مصلّى السجود، فتمتم في سبحة الخضوع: «الله لطفك يا ناشر المنون. يا غافي عن ذمائم البشر، وساحق لؤم الشجن، فيك الأنس والرضوان، اِحْمِ صعاليك الثرى، واَغْفُر خطايا ضِعاف النفوس من غدر ذاتهم».
ومضى الصديقان في أرجوحة الزمان، يتعانقان، ويتسامحان، وينسيان اخضرار البساتين في عينين مشرقتين، وقلبين سعيدين فيكبحان الهيام في ساحرة الوجه البهيّ، ويتلكّآن على صداقة هزّها الشغف وطالها جرح نازف.
وملأت التأوّهات أنامل المكان فأثقلت أصداء الأوجاع جوارح الصديقين، وناما على ربوة الصفاء بين أرجاء الوفاء حاملَيْن يراع الصداقة وصولجان الإخلاص، وتلاشت الغمامة الداكنة التي حطّمت قلبيهما، وبزغ صباح بارق يراقص الحبور والأمل والشوق… الشوق إلى فجر جديد ينذر بالحصاد والنبات والإيمان.