حتى يكون دعم الجيش اللبناني حقيقة لا نفاقاً فيها يجب…؟
العميد د. أمين محمد حطيط
مَن يتابع المواقف الداخلية اليوم من الجيش وتلك المغالاة في التظاهر بدعمه والتمسك به منقذاً وخشبة خلاص وحيدة من كلّ ما يهدّد لبنان من أخطار يظنّ أنّ هناك استفاقة وطنية على الجيش واعترافاً بدوره وبأهميته بعد جهل طويل وعظيم تنكّر له.
ولكن مَن يذكر تاريخ المستجدين في حب الجيش ودعمه ويدقق في سلوكهم حياله حاضراً يستنتج بأنهم مستقبلاً لن يكونوا إزاء الجيش أفضل حالاً من ماضيهم اللهم إلا بالنسبة لقتاله واحتلال ثكناته وقتل عناصره واحتجاز ضباطه وتسميم بعضهم. لن يفعلوا هذا مرة أخرى ليس عن وعي وعودة الى الصواب، بل عن عجز ومعاكسة الظروف ليس أكثر.
لقد أتخمنا البعض منذ فترة ولا يزال بالمواقف والبيانات والإعلانات الداعمة للجيش والداعية لاعتباره القوة الوحيدة المولجة والقادرة بالدفاع عن لبنان وحماية مصالحه الوطنية في وجه أيّ تهديد أو خطر. يقومون بذلك متناسين تاريخهم الأسود ضدّ الجيش سواء في الميدان، كما فعلت القوات اللبنانية في حقبة من الزمن وأقدمت على احتلال ثكنات عسكرية وقتل عسكريين وخطف واحتجاز آخرين إلى ما هنالك من جرائم ارتكبتها تلك الميليشيات ضدّ الجيش يومها، أو كما فعل تيار المستقبل على أكثر من صعيد ميداني وإداري مالي ضدّ الجيش، حيث ضيّق عليه مالياً إلى الحدّ الذي حرمه من الكثير من الحقوق المكتسبة لأفراده، والأخطر حرمانه من التجهيز والتسليح في الوقت الذي تهدر فيه الأموال العامة يميناً ويساراً لتذهب الى جيوب المتنفذين والمحاسيب وفي الآونة الأخيرة قيّد الجيش في عملياته ما تسبّب بأسر جنود منه وقتلهم.
إننا نعرف أنّ المستجدين في حب الجيش غير صادقين في ما يعلنون ويجاهرون به، وإننا على يقين بأنّ حبهم المفاجئ للجيش ليس حباً به بمقدار ما هو عداء وكراهية يختزنونها ضدّ المقاومة ونعلم أنهم يريدون من الجيش ليس الدفاع عن لبنان بل التصدي للمقاومة التي حرّرت أرضاً لبنانية من الاحتلال «الإسرائيلي»، وأنقذت لبنان من خطر الإرهاب التكفيري الذي ترعاه جهات دولية وإقليمية يدين «محبو الجيش الجدد» بالولاء والتبعية لها، ومع ذلك نريد أن نُكره أنفسنا على التصديق بأنّ هؤلاء استفاقوا ويريدون فعلاً تمكين الجيش من القيام بكلّ المهمات والأعباء التي تلقى عادة على عاتق الجيوش في الدفاع عن الأوطان، وبأنهم يقفون خلفه ويوفرون له كلّ السبل من أجل ذلك. وهنا نسأل هؤلاء هل هم جاهزون لـ:
1 ـ التمسك بالعقيدة العسكرية الوطنية التي أرسي الجيش عليها في بنائه الموحّد بعد الشرذمة الطائفية والمناطقية وحتى الشخصانية؟ بما يعني قناعتهم بأنّ «إسرائيل» عدو، وبأنها تحتلّ الأرض اللبنانية وتنتهك السيادة ويجب إخراجها بكلّ الوسائل بما في ذلك القتال والمواجهة في الميدان، ووضع الحدّ لانتهاكها سيادة لبنان؟
2 ـ تزويد الجيش اللبناني بكلّ ما يلزمه في سبيل نجاح الجيش في مواجهة العدو «الإسرائيلي» والخطر الإرهابي تزويده بكلّ سلاح وتجهيزات، من دون ان يكون عليه حظر من أيّ جهة كانت؟
3 ـ رفع اليد السياسية عن الجيش وإطلاق يده في الميدان بما يراه مناسباً للقيام بمهامه والعودة به إلى ما كان عليه يوم بنائه الحديث، حيث كانت قيادته تتصرف بما تراه ملائماً ومحققاً للمصلحة الوطنية، وبعيداً عن المحاصصة الطائفية والشخصانية التي تهدر الكفاءات والطاقات؟
إنّ دعم الجيش الحقيقي يبدأ من هنا، وإنّ أيّ تحفظ على أيّ نقطة أو فرع مما ذُكر يعني ببساطة نفاق مَن يدّعي الدعم والتأييد والتأكيد مرة أخرى بأنه تظاهر بالحب وليس حباً ومساندة للجيش، بل نية وقصد لدى هؤلاء لمناهضة المقاومة والعداء لها كما يظهرون أو يُضمرون، ولكن المقاومة الحريصة على لبنان وقوة لبنان لا تتصرّف على هذا الأساس، رغم علمها بالنية الحقيقية لأصحابه بل إنّ المقاومة تُسعد وتُطرب لكلّ موقف من شأنه أن يعزّز الجيش ويُعلي مكانته معنوياً أو مادياً، بشرياً في العديد او تجهيزاً بالسلاح والذخيرة والعتاد، لأنّ في ذلك قوة تراكمية تضاف إلى قوة الوطن.
واذا أراد مدّعو محبة الجيش الجدد أن يقرنوا القول بالفعل، فعليهم أن يبادروا إلى تسليحه وتجهيزه، وفقاً لما تقتضيه المهام المطلوبة منه ويأتي في طليعة ما هو مطلوب:
أ ـ تزويد الجيش بمنظومة دفاع جوي حديثة ومتطوّرة تمكّن لبنان من حماية أجوائه وتمنع «إسرائيل» من استباحتها يومياً ومن ترويع الناس، كما حصل في صيدا منذ أيام وتمنع من اتخاذ لبنان ممراً جوياً للاعتداء على سورية، كما حصل مؤخراً في الغارة الجوية «الإسرائيلية» على مصياف انطلاقاً من سماء لبنان.
ب ـ تزويد الجيش بمنظومة دفاع بحري تحمي شواطئه وتمنع حصاره، كما والأهمّ اليوم تحمي منطقته الاقتصادية خاصة المنطقة التي تريد «إسرائيل» اغتصابها، وهي بمساحة 856 كلم2.
ج ـ تزويد الجيش بمنظومة صاروخية متوسطة وبعيدة المدى من أجل تمكينه من إرساء معادلة ردع استراتيجي ناري مع العدو «الإسرائيلي»، من شأنه أن يؤمّن الحماية للبنان ويمنع «إسرائيل» من التهديد بإعادته مئة سنة الى الوراء.
د ـ مدّ الجيش باحتياجاته اللوجستية التي تمكّنه من أداء مهامه العملانية بيسر يضمن نجاحها ويضمن ما أمكن حماية عناصره وسلامتهم.
نقول هذا رغم علمنا بالواقع اللبناني الذي يمنع تحقيق شيء مما ذكر وفيه ما يحول في حال استمراره من إطلاق يد الجيش في القيام بمهماته، ونسوق على سبيل الذكر وليس الحصر ما يلي:
1 ـ تعقيد في اتخاذ القرار السياسي. نعلم أنّ الجيش في لبنان موضوع بتصرف السلطة التنفيذية الممثلة بمجلس الوزراء، وانّ اتخاذ قرار سياسي باستعمال الجيش او عمله ليس بالأمر السهل في ظلّ انقسام حادّ في لبنان ويشكل تناقضاً واضحاً بين الأطراف السياسية حيال أكثر من قضية ومسألة. وانّ هذا الانقسام يمنع عمل الجيش حتى في حالات الدفاع عن النفس أحياناً، كما حصل في عرسال في العام 2014 ودفع الجيش من خيرة عناصره ثمناً لذلك.
2 ـ الادّعاء بعجز الموازنة عن تسليح الجيش والاتكال على المساعدات الخارجية المشروطة، وهذا ما يحصل حالياً بالنسبة لما يتمّ من تزويد أميركا للجيش اللبناني او ما قيل يوماً عن الهبات السعودية بحجم 4 مليارات دولار، والتي كان شرطها تغيير عقيدة الجيش وقتال المقاومة والتمديد لرئيس الجمهورية، ولما رفض لبنان الاستجابة للشروط ألغيت الهبات.
3 ـ رفض فريق من اللبنانيين قبول هبات عسكرية غير مشروطة عرضت من كلّ من إيران والصين بحجة واهية، ولكن الحقيقة تتمثل في رفض أميركي لدخول إيران أو الصين على خط تسليح لجيش.
إنّ هذه الحقائق تجعل الحريص على لبنان ومصالحه الوطنية يدقق أكثر في المواقف الصادرة عن البعض حيال الجيش، كما يجعله يتمسك أكثر بالمقاومة التي تسدّ الثغرات التي يمنع على الجيش سدّها أو تفاديها، وعلى هذا الأساس نرى أنّ دعم الجيش اذا كان صادقاً فعلاً من أجل حماية لبنان، فإنه ينبغي ان يكون دعماً له أولاً ودعماً لمن يساعده ويقوم بمهام دفاعية عن لبنان إلى جانبه ثانياً، حيث لا يمكن للجيش أن يعمل.
أما التصويب على المقاومة والتظاهر بدعم الجيش ففيه خدمة للعدو «الإسرائيلي» وتفريط بمصالح لبنان الدفاعية ونحر للجيش على حدّ سواء، فلبنان بحاجة للجيش وهذا أمر دستوري وقانوني حتمي، وبحاجة للمقاومة وهذا أمر واقعي فعلي ميداني، وانّ ايّ تخلّ عن ايّ منهما يعني الإضرار بمصلحة لبنان الدفاعية، وكما حدّدنا في كتابنا الصادر في العام 2006 الاستراتيجية الدفاعية ، فإننا نعود ونؤكد انّ لبنان في واقعه الحالي لا يمكن ان يطمئن الى أمنه وسيادته إنْ لم يتمسّك بالجيش والمقاومة على حدّ سواء، فإنهما متكاملان غير متناقضين ولا يلغي أحدهما الآخر ولا يحلّ أحدهما مكان الآخر، وبالتالي إنّ دعم الجيش يستوجب دعم المقاومة، لأنّ في ذلك تمكيناً للجيش من امتلاك فرص النجاح بمهامه، كما حصل في عرسال 2017 وايّ قول آخر انما يكون ضدّ الجيش، فضلاً عما فيه من جهل أو نكران جميل.
أستاذ جامعي وباحث استراتيجي