البحث عن الحقيقة: خطايا النظام وذنوب الأردنيين
د. لبيب قمحاوي
أصبحت السياسة في الأردن وفي معظم أقطار العالم العربي أمراً يبعث على القلق، بل وأصبحت الحياة السياسية نفسها أمراً يبعث عن الملل. فما يُسمّى بالنخبة السياسية في الأردن، وكما هو الحال في معظم الأقطار العربية، ليست نُخْبَة بالمعنى العلمي المتدَاوَل للكلمة، ولكنها في أغلب الأحيان عبارة عن مجموعة من البشر وقع عليهمُ اختيار الحاكم لشغل مناصب مختلفة لأوقات محدّدة ولأسباب لا تعود الى مؤهّلاتهم أو تاريخهم السياسي أو قاعدتهم الجماهيرية بقدر ما تعود لظروف وأسباب تتعلق بالحاكم نفسه وتتناسب مع مزاجه أو متطلباته وقدرة أولئك المختارين على خدمة تلك المطالب دون أيّ اعتراض أو احتجاج أو حتى تساؤل. ومن هنا فإنّ تعيين أحد ما في منصب ما أو إقالته منه يُجابَه في معظم الأحيان بالاستغراب نظراً لغياب الأسس العلمية أو السياسية لمثل ذلك التعيين أو تلك الإقالة. ومن هنا فإنّ ارتباط التعيين أو الإقالة برغبات الحاكم أو أجهزته يجعل من الشعب عموماً رهينة لتلك المِنْحَة المقتصرة على الحاكم والرغبة الدفينة في الحصول عليها من قبل المحكوم. إنّ هذه المعادلة تشكل نواة الخلل الحقيقي في العلاقة بين النظام والشعب من خلال احتكار النظام لسلطة منح وحجب الألقاب والمناصب ورغبة الآخرين في الحصول عليها.
يعاني الشعب الأردني من وَلَعٍ مُفرطٍ بالألقاب والمناصب الى الحدّ الذي أصبح فيه هذا الوَلَعْ صفة ملازمة للأردنييّن وأحد السّماتِ التي يُعْرَفون بها لدى الشعوب الأخرى. فاللقب أو المنصب المرتبط باللقب أصبح من أغلى أمنيات العديد من الأردنيين، والدافع الرئيسي لطموحاتهم. ومع مرور السنين، أصبحت هوية المواطن الأردني العادي ناقصة لا تكتمل إلا بعد حصوله على لقب ما يُؤكد من خلاله ذاتَه وأنه قد نجح في حياته وفي مسعاه للوصول الى المنصب أو الحصول على اللقب أو كليهما معاً. والضعف الذي يعاني منه الأردنيون تجاه الألقاب والمناصب ربما يعود في أصوله الى ارتباط كليهما بمفهوم الدولة والاستقلال اللذين رافقا بداية الحكم الهاشمي لما أصبح يدعى بإمارة شرق الأردن ومن ثم المملكة الأردنية الهاشمية. وكان النظام في بداياته فقيراً غير قادر على شراء الذمم والولاءات بالمال، فابتدأ بمنح الألقاب مثل لقب «الباشا» بدلاً عن المال وكان من الضروري أن يعمل النظام على إعطاء تلك الألقاب ما يلزم من الفخامة والأهمية لتعزيز قيمتها. وهكذا ابتدأ المسار واستمرّ وتفاقم حتى بعد أن أصبح النظام قادراً مالياً على شراء الذمم والولاءات. وابتدأ شغف الأردنيين باللقب يطغى على أيّ شئ آخر وأصبح جزءاً رئيساً من طموحاتهم.
لقد برع نظام الحكم في الأردن في استغلال حب الأردنيين للألقاب وضَعْفهم أمام المنصب العام، وقام باستغلال ذلك من أجل فرض إرادته على الراغبين أو الطامحين والتلاعب بهم من خلال التلاعب بعواطفهم ودغدغة طموحاتهم وأطماعهم الشخصية وبما يؤدّي إلى خلق القناعة بأنّ منْح اللقب أو إعطاء المنصب يرتبط بقدرة المستفيد على خدمة النظام بالتزام كامل ودون معارضة أو حتى تساؤل، مما يجعل من ذلك ممارسة أقرب الى الرشوة أو الابتزاز. ومن هنا أصبح من الضروري تداول هذه المناصب باستمرار وبشكل مكثف يسمح للنظام بإرضاء أكبر عدد ممكن من البشر الطامحين من خلال إعطائهم المنصب أو اللقب أو معاقبتهم من خلال حرمانهم من ذلك. وهكذا تحوّل المنصب من أمرٍ محكومٍ بالكفاءة والمؤهّلات والقدرة، إلى وسيلة لتداول المنفعة بشكل يستجيب لشهية الآخرين ويجعل من السعي إلى المنصب، وبالتالي اللقب، أمراً ممكناً ومفتوحاً للتداول والتناوب مما يستدعي ضرورة التسابق على إبداء الولاء أو الامتناع عن نقد أو معارضة الحكم تجنّباً للحرمان من المنصب أو اللقب.
لقد ارتكب الأردنيون الذنب الأكبر بسماحهم للنظام أن يَسْتَغلَّهم أبشع استغلال من خلال أدوات لا معنى حقيقياً لها سوى كونها تصنيفاً اجتماعياً شَكْلياً فارغاً لا يعني في الواقع شيئاً إلا إرضاء غرورٍ سخيف أو نزعة سطحية لتعبئة فراغ حقيقي بأدوات وهمية مثل إضفاء لَقَبٍ ما على هذا الشخص أو ذاك مثل معالي فلان أو عطوفة علان أو الباشا الفلاني أو البيك الفلاني وكلها ألقاب فارغة لا تضيف لحاملها شيئاً سوى إرضاء غروره أو سعيه الى استجلاب اعتراف الآخرين بأهميته كشخص. لقد ساهم هذا الوضع في تقوية يد النظام في تعامله مع الأردنيين من خلال تشجيع نزعتهم نحو الألقاب من جهة، وإفهامهم بأنّ سلطة منح اللقب هي بيد النظام حصراً من جهة أخرى، وأن كلّ من لا يحظى برضا النظام وقبوله لن يتمكن في نهاية الأمر من الحصول على اللقب أو المنصب أو كليهما معاً.
لقد نجح النظام فيما فشل فيه الشعب. فالنظام يعلم ما يريد وما لا يريد ويتصرف على هذا الأساس. أما الشعب فقد خلط بين الشخصي والعام ووَضعَ العام في كَنَف الخاص الشخصي وهكذا أصبح للطموحات الشخصية الأولوية على القضايا العامه ومتطلباتها وانسحبت المواطنة لصالح ترتيبات أخرى تحكمها المصالح الشخصية مستغلة بذلك كافة الأطر بما فيها العشائرية والجَهَوية، مما شكل نكسة لمستلزمات التطور والتطوير والمؤسسية. وقد ساعد هذا الوضع النظام على فرض إرادته من خلال التحكم بالألقاب والمناصب، ولم يستطيع الأردنيون حتى الآن التخلي عن هذا الضعف الى الدرجة التي سمحت لعضو في أحد الأجهزة الأمنية أن يتفاخر على شاشة التلفزيون ويُصرّح «بأننا يقصد النظام نشير بأصبعنا إلى أيّ شخص من المعارضة لتولي أيّ منصب وهو يركض إلينا ملبّياً تلك الاشارة». كلام في غاية القسوة ولكنه، حتى تاريخه، صحيح إلى حدّ كبير.
لم يكن لهذا المسار ان يستمرّ في ظلّ الأوضاع المتردّية السائدة في الأردن وتحت ضغط الظروف الاقتصادية الصعبة والبطالة وتفشي الفساد مما وَجَّه ضربة شديدة للنمط التقليدي القديم الذي يعطي الأولوية للقب أو المنصب على أيّ شيء آخر، وأًصبحت اهتمامات الأجيال الجديدة من الأردنيين مختلفة عن اهتمامات أجيال آبائها.
تشير الإنتخابات البلدية ومجالس اللامركزية التي جرت مؤخراً إلى أنّ الأجيال الجديدة من الشباب الأردني تميل الى التخلي عن المقاييس التقليدية والعشائرية لصالح فكر جديد متنوّر، وذلك تحت ضغوط البطالة والفقر والقهر والفساد المرتبطة بالنظام والتي وَقَفَ الإطار العشائري عاجزاً عن تقديم حلول لها كون المشكلة عامة وفي تفاقم مستمر. فبالإضافة الى عزوف الأردنيين بشكل عام عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة، وهو بحدّ ذاته موقفاً سياسياً رافضاً، جاءت نتائج تلك الانتخابات مؤشراً واضحاً على تقهقر الإقليمية والجهوية والعشائرية لصالح الفكر التنويري الرافض، وعلى التحدّي السلمي الذي عَبّرت عنه أوساط الشباب من خلال عدم الاعتماد على دعم العشيرة وعدم التصويت لصالح المرشحين المحسوبين على النظام بالرغم من الجهود التي بذلها النظام ومؤسساته لإنجاح أولئك المرشحين، وكانت نتائج انتخابات الزرقاء والكرك والطفيلة ومؤاب والمزار أمثلة واضحة على ذلك المسار. وهكذا فإنّ الشباب الذين نجحوا في تلك الانتخابات لم يكونوا مُنْتَجَاً عشائرياً أو حكومياً، بل كانوا في غالبيتهم مُنْتَجاً للفكر الجديد المستقل المتنوّر الذي يعكس الرغبة في التغيير والإصلاح والابتعاد عن المسار التقليدي المحافظ والساعي الى الألقاب والمناصب حتى ولو كان ثمنها الإنصياع الأعمى للحكم.
انّ المواقف الجديدة المتطوّرة للشباب الأردني لم تُجَابَه بمقاومة حقيقية من القوى العشائرية والتقليدية نظراً لفشل تلك القوى أصلاً في ايجاد أيّ حلول حقيقية لمشاكل الشباب وأهمّها البطالة، وكذلك فشلها في المشاركة الحقيقية في إدارة الدولة ووضع حدّ للفساد. وقد كان لنجاح النظام في استغلال القوى التقليدية والمُحافِظَة لخدمة النظام فقط وتقليص دورها وقدرتها على خدمة مجتمعاتها المحلية باستثناء تقديم بعض الرشاوي أو الخدمات الخاصة لتعزيز نفوذ هذا الشخص أو ذاك، كان لكلّ ذلك أثر كبير في الانحسار المحتوم للنفوذ العشائري والتقليدي المحافظ والموالي بين أوساط الأجيال الجديدة من الشباب الأردني الذي لم يلمس أيّ قدرة حقيقية للقيادات العشائرية والتقليدية والموالية على حلّ مشاكله والتعامل مع التحديات التي تجابهها الأجيال الجديدة. لقد حاولت القيادات العشائرية والتقليدية أن ترث دور الأحزاب في قيادة مجتمعاتها المحلية، وبدعم واضح من الدولة، ولكنها فشلت في القيام بذلك الدور. وهذا الفشل سوف يفتح الباب أمام المجتمع المدني للعب دوره الطبيعي وإفراز مؤسسات وقيادات مدنية تنتمي للمجتمع وليس لعشيرة بعينها، وبالطبع فإنّ هذا الأمر لن يمرّ دون مقاومة من النظام وأجهزته.
إنّ تدجين القيادات العشائرية والتلاعب بمقدرات الوطن ابتداء من عملية الخصخصة بكلّ ما اكتنفها من تساؤلات وفساد، وبعد أن تمّ تدجين أجيال متتالية من الأردنيين الطامحين لتولي المنصب العام أو تمّ إقصاؤهم، يعود الأردنيون من خلال جيل الشباب الحالي إلى لملمة صفوفهم ومحاولة إعادة بناء مجتمعهم من جديد بمعزل عن التسلط والظلم والفساد والاستسلام الطوعي لإرادة النظام ورغباته. واذا كان مقدّراً لذلك التغيير أن يستغرق وقتاً أطول مما هو لازم، نظراً لنجاح النظام في ابتزاز إرادة الأردنيين للتغيير من خلال إيهامهم بأنّ أمن الأردن واستقراره مرتبطان بالمحافظة على الوضع القائم status quo ، فإنّ ذلك أمراً لن يستمرّ لأنّ واقع الأمور هو غير ذلك، وأنّ التغيير الإيجابي لا يتعارض مع الأمن والاستقرار حيث أنّ المواطنة تبقى هي الطريق الأصحّ والأسلم للمرحلة المقبلة. فالمواطنة تَجُبّ الأصول والمنابت وتَجُبّ ما قبلها. وإعادة تشكيل المجتمع على أسس جديدة يتطلب اعتماد مفهوم المواطنة الناجزة كأساس.
المطلوب من الأردنيين أن يتوقفوا عن إبداء أيّ طموح للحصول على اللقب أو الوصول الى المنصب بأيّ وسيلة لأنّ ذلك من شأنه أن يؤدّي إلى إضعاف قدرة الحكم عن الاستمرار في ابتزاز الأردنيين لتقديم التنازلات التي يريدها النظام. فالألقاب لا قيمة لها وهي جزء من تراث الماضي الإقطاعي، أما المنصب فهو حق للمواطن ضمن منظومة من التنافس الشريف والشفافية وأولوية الحق وبما لا يجعل أيّ شاغر لأىّ منصب محكوماً لمزاج المسؤولين وخاضعاً لضغوطهم. قد يبدو هذا الكلام مثالياً بالنسبة للبعض ولكنه الواقع في العديد من دول العالم ذات المنظومة الديمقراطية التي تعتمد المواطنة الناجزة وتكافؤ الفرصة والشفافية والمساءلة أساساً لنظامها السياسي.
مفكر وسياسي