علاجات روسيّة لخفض توتر القوى الإقليمية والدوليّة في سورية
د. وفيق إبراهيم
تعتمد القيادة الروسية في أزمة سورية أسلوب تسديد ضربات عسكرية هائلة تشلّ حركة «الخصم الإرهابي» وتطرحه أرضاً، للتمهيد لمفاوضات مع القوى الراعية له تؤسس فيها حلولاً تدريجية متّفقاً عليها سلفاً مع قيادة دمشق وحلفائها.
ما يجري الآن في أستانة الكازاخية يندرج في هذا الإطار، أي في اتجاه فكفكة ألغام القوى الخارجية المشغِّلة لإرهاب فقد معظم قوّته، ولم يعد يملك إلا لساناً يطلق منه تصريحات يخال سامعها أنّها تعود لقوى عظمى.
هناك ست قوى تدير الجانب الإرهابي في الأزمة السورية بشكل مباشر، وفيما تلعب واشنطن دور القيادة العليا، تشكّل تركيا والسعودية والأردن و»إسرائيل» وقطر أدوار قيادات ميدانية وفكريّة وتمويلية وتسليحية، وهي القوى التي تدأب موسكو على خفض توتّرها الناتج عن هزيمة التنظيمات الإرهابية الموالية لها، وبالتالي فقدانها لمعظم نفوذها السياسي.
كيف تعالج موسكو توتر واشنطن وحلفاءها؟
يبدو أنّ فكرة مناطق «خفض التوتر» اخترعتها روسيا خصيصاً لاحتواء الحلف الدولي الداعم للإرهاب، وبدأتها بتفاهمات حول الدور الكردي الأثير عند الأميركيين، باعتباره من أواخر الأوراق الاستراتيجية التي تمتلكها الإرادة الأميركية في سورية و «الشرق الأوسط».
لم يقبل الكرملين بتشريع هذا الدور، لكنّه غضّ الطرف عنه في إطار سياسة الأولويات المنحصرة في التعامل أولاً مع «الإرهاب الإسلاموي»، ومصرّاً على محدودية جغرافيته. وكانت موسكو تعرف أنّ الدور الكردي يؤدّي تلقائياً إلى نزاع أميركي مع تركيا، التي لا تقبل أبداً بتشكيل مؤسسات عسكرية وسياسية كردية تنحو إلى أن تصبح دولة كردية قابلة للتمدّد نحو تركيا وغيرها في الجوار.
وهكذا انتهت أحلام أردوغان بإمبراطورية عثمانية أو خلافة بواسطة الإخوان المسلمين إلى مجرّد مكافحة لإلغاء المشروع الكردي المسنود أميركياً. هذا ما أنتج تقارباً تركياً روسياً مدعوماً بصفقات لتوريد الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا، أدّى بسرعة إلى خفض التوتّر التركي وتحويل وجهة غضبه نحو واشنطن الداعمة للأكراد.
لذلك تعالج مباحثات أستانة أوضاع منطقة إدلب التي تسيطر عليها «جبهة النصرة» التي يبدو أنّها خرجت من العباءة التركية. وتقول معلومات، إنّ تفاهماً يتبلور على أساس القضاء على «النصرة» مقابل نشر شرطة روسية فيها إلى جانب الجيش السوري ومقاتلين من تركمان سورية، يتجمّعون حالياً عند الحدود.
إنّ هذا المشروع يريح الدولة السورية التي تُنهي بذلك واحداً من أقوى التنظيمات الإرهابية، وتستفيد منه أيضاً أنقرة التي تعاود زرع مؤيّديها التركمان السوريين في إدلب، وتضعهم في مواجهة الأكراد. كما تضغط على منطقة عفرين المجاورة التي لا تزال تحت سيطرة قوات كردية موالية لواشنطن، وبالنتيجة فإنّ التفاهم الروسي التركي في إدلب يستوعب التوتر التركي، مضيفاً المزيد من نقاط الخلاف بين أنقرة وواشنطن والكرد.
ولأنّ الدور القطري في سورية جزء من الدور التركي، فإنّ الدوحة المنهمكة بأزمتها مع السعودية ومصر والإمارات والبحرين لن تجد وقتاً ومساحات لتنشيط حركتها في الداخل السوري، وبذلك يرحل توترها إلى شبه جزيرة العرب وترتاح سورية من دعمها للإرهاب والإخوان المسلمين.
كما تواصل موسكو احتواء التوتر السعودي بتفاهمات عميقة حول أسواق الطاقة وحركة إنتاجها، إلى جانب منطقة خفض التوتر في أرياف دمشق التي يُفترض أن تحافظ على قوى موالية لها جيش الإسلام وداعشيون متنكّرون في إطاره . لكنّ روسيا لم تجد علاجاً لإصرار سعودي على خفض الوجود السياسي العسكري لإيران وحزب الله في سورية، فهؤلاء حلفاؤها ويسطّرون مع الدولة السوريّة والدعم الروسي أعظم الانتصارات في وجه وباء عالمي فتّاك يهدّد العالم بأسره، بالإضافة إلى أنّ إيران وحزب الله هما من حلفاء الدولة السوريّة التي دعتهما لقتال الإرهاب، لذلك فهما في سورية طالما أنّ الدولة السورية تريدهما ولا يرحلان إلا عندما تطلب منهما حليفتهما قيادة دمشق الرحيل، لذلك فقد أبلغت الدولة السورية كلّ من راجعها في هذا الأمر أنّه خط أحمر لا نقاش فيه مع قوى خارجية، ويدخل في إطار مصالح الدولة.
وبحركة أقلّ استراتيجية من «العناد السعودي الفارغ»، والصادر من دولة مهزومة، أصرّ الأردن على منطقة خفض توتر تبعد التنظيمات الإيرانية وحزب الله عن حدوده مع سورية، وهو طلب أميركي يريد جعل الحدود الأردنية العراقية تحت نفوذ واشنطن، لكنّ سرعة الاندفاعة العسكرية للجيش السوري وحلفائه على وقع أنغام قصف روسي هو الأعنف من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية، غيّرت نوعية مطالب الأردن الذي يُصرّ فقط على إبعاد حزب الله والإيرانيين عن الحدود مباشرة، ووضع جنود سوريين وروس مكانهم… وبذلك تحوّل التوتر الأردني تفاهماً يتدحرج نحو احتمال ولادة اتفاقات سياسية مرتقبة قد تؤدّي إلى استئناف النشاطات الاقتصادية بين البلدين.
أمّا «إسرائيل» المتورّطة بدورها بدعم الإرهاب في سورية، فراهنت على تدمير الدولة وتفتيتها وإدخالها في حالة فوضى تؤدّي إلى إنهاء القضية الفلسطينية وحزب الله والدور الإيراني. لذلك ألزمها الروس بقواعد تحدّ من حركتها جوّاً وبرّاً، وظلّت تلتزم بها نسبياً حتى تحرير دير الزور، وتحرير تلّعفر والموصل والوصول إلى الحدود مع الأردن والعراق. عند هذا الحدّ، أيقنت «إسرائيل» أنّ مراهناتها على الإرهاب لم تعد مفيدة، فهرع قادتها إلى موسكو يُصرّون على إلغاء الدور الإيراني في سورية وإخراج حزب الله منها، أي المطالب السعودية نفسها المنسّقة معها.
ولأنّ موسكو لم تقبل، ذهب التوتر «الإسرائيلي» نحو قصف بلدة صافيتا السوريّة من الأراضي اللبنانية، منظّماً مناورات عسكرية قرب حدوده مع جنوب لبنان، هي الأضخم من نوعها في تاريخ الكيان «الإسرائيلي»، ومخترقاً جدار الصوت فوق مدينة صيدا، ومهدّداً وزارعاً أجهزة تجسّس في الجزء اللبناني، وموسكو تعرف أنّ هذا هو أقصى حالات التعبير عن التوتر «الإسرائيلي»، لأنّ تطوّره يذهب في اتجاه إعلان حرب على لبنان وسورية بتغطية أميركية سعودية، وهذا لم يتأمّن حتى الآن لأنّه يؤدّي مباشرة إلى حرب أكبر تنخرط فيها تلقائياً، كلّ من روسيا وإيران، وقد تذهب في اتجاه حروب أكبر.
هذا هو الإطار الذي تعالج فيه موسكو توتر المهزومين، ألَم يقل وزير دفاعها شويغو إنّ سورية حرّرت 85 في المئة من أراضيها التي كان يسيطر عليها الإرهاب! بقي أن تتواصل التفاهمات مع الأميركيين لإيجاد تسوية تنهي الدور الكردي الذي يعوّل عليه الأميركيون كثيراً.
موسكو إذاً تقدّم علاجات للتوتّر.. ومَن لا يقبل بخفضه، فإنّ عليه أن يتوقّع هجوماً برياً وجوياً كاسحاً يعيده إلى منطقة «خفض التوتر». الأمر الذي يؤكّد أنّ سورية عائدة إلى كيانها السياسي، وتتّجه لأداء أدوارها الأساسية في الميادين العربية والإقليمية والدولية. أمّا المراهنون على الأجنبي و»الإسرائيلي»، فإنّ عليهم رؤية الأوضاع التي كانت عليها سورية قبل ست سنوات، ومقارنتها بسورية الحالية المنيعة والمرهوبة الجانب، بجيشها وتحالفاتها مع حزب الله وإيران وروسيا.