11 أيلول 2017.. القضاء اللبناني يتخلّى أيضاً!

هاني الحلبي

أطلق مفوّض الحكومة في المحكمة العسكريّة، سراح أحد حَمَلة الجنسية اللبنانية المتعاملين مع العدو اليهودي، بعد اعترافه بإقامته 11 أشهراً داخل كيان العدو، هازئاً بأي قانون يمنع هذا الجرم، للقيام بـ «عمل فني» أفاد اقتصاد دولة العدو ومغتصبيها بفرص عمل وضرائب، وتسويق سياسي مكشوف يستهدف الهوية الوطنية ومعنويات اللبنانيين الشرفاء وتضحياتهم أحياء وشهداء برصاص العدو الإسرائيلي وطائراته ودباباتهم ومخابراته وعملائهم في لبنان طيلة عقود.

بهذا التصرّف غير المسؤول، من قاضٍ، تخلّى عن واجبه، لأسباب لم تُعلن، وفي حيثيات لم تُعلن، لكن بالمحصلة أُهين لبنان النصر، لبنان المقاومة، لبنان البطولة والجيش الوطني، واستخفافاً بلبنان دولة القانون المرعي الإجراء.

لم تعلن أية جهة ذات أهلية وذات صلاحية وذات صفة أن القوانين التي تُقرّ في لبنان من العام 1926 هي لا تعدو كونها فسيفساء، ولافتات يعلكها المسؤولون لاستلاب أدمغة الناس لتكون تبرير تسلط أقوياء بالقانون على ضعفاء بمواطنيتهم، أو أنها لزوم ما لا يلزم. وحيث لم يتم هذا الإعلان فيجب تطبيق القانون، بحزم وعدل، وروح عدالة وتدبُّر مسؤول.

أما إهمال القانون جملة وتفصيلاً، فمردّه أسباب وأسباب:

ضعف الرأي العام وتدنّي مستواه المواطني والسياسي والوطني. إذ ما يبرر تمرير ثلاثة تمديدات لأهم سلطة قانونية في دولة لبنان، بأقل اعتراض شعبي ممكن؟ إذ يجدر بالنواب الحقيقيين أنفسهم، أن يرفضوا التمديد، ويضعوا نيابتهم في ميزان الانتخاب عند أي طعن فيها، ولو لم تنته ولايتهم النيابية، فكيف أن يتدبّر كبير مشرِّعي المجلس كل مرة نص مرسوم التمديد ليقرّ برفع الأيدي وبجلسة واحدة.. إذا كانت لدينا مشكلة في ما يُسمّى جهلاً بـ «الطبقة السياسية»، فكيف يمكن الحد من آثار هذا الانهيار في الرأي العام، الضابط الحقيقي للديمقراطية؟

انثلام الوجدان القومي لغالبية عظمى من المواطنين، بحيث تحوّلوا مجرد أعداد تصبّ في صندوق اقتراع يتم التهويل عليها برشى أو وظائف فردية، ليتمّ تأبيد استتباعها للنافذين، الذين يعمَون عن الخيانات الكبرى وعن الفساد الأكبر. وعند طرح أية فضيحة يفطنون للفساد ويتداولونه في اجتماعاتهم بضع جلسات وتغريداتهم مؤقتاً، و«كان الله يحبّ المحسنين» و«تعود حليمة لعادتها القديمة».

تخلّي القضاء وبأسلوب متفلّت عن محاسبة المجرمين بالاتصال بالعدو، ودخول كيانه، واستقبال المجرمين هؤلاء استقبال الفاتحين والعباقرة والعظام الخالدين، سبب تعميم ما أسسه الانعزال اللبناني منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عندما دأب أقطابه من رجال دين وسياسة واقتصاد وأدب وفن وفكر، على التواصل مع مؤسسي الدولة اليهودية واستجرار دعمها واستدخال جيشها للسيطرة على رئاسة الجمهورية بالمدافع والحرب، في آب 1982، وما زال لبنان الرسمي، بلا خجل، لم يرفض هذه الانتخابات المذلّة، والمهينة لكل مواطن فيه، فضلاً عن أنها مهينة لكل مسؤول فيه، من أرفع درجات المسؤولية لأدناها، إن كان هذا المواطن يعي حقاً ما تعنيه مواطنيته وقيمها وهويتها وسيادتها.. وحتى الآن ما زالت غالبية عظمى ترى أن «بشيرها» رئيس عتيد خالد بخلود الرافعة الصهيونية. وترى إلى البطل القومي الذي نفّذ فيه حكم الإعدام أنه يستحقّ المحاكمة بعد 35 سنة.

تكرّر أخطاء القضاة المعنيين. فكثيرون من العملاء لم يناموا في نظارات التوقيف الاحتياطي، وبعضهم لم يتخطّ مرحلة الظن، وبعضهم لم يُكمل مهلة محكوميته، ولما أطلق سراحه بتسوية خرج «بطلاً قومياً لبنانياً» بمنظار الانعزال المهزوم بالموقف الشعبي، المنتصر بالمنطق الرسمي، والقضاء منه بينما مطلوب فحص دم كلّ من حزب الله وباقي قوى المقاومة للتأكد من لبنانيتها، إن كانت زمرُ دمها توافق زمر العفن العميل.

تبويس اللحى لا يبني وطناً، وعقلية التسويات لا تبني دولاً. وأقرب مثال هو قانون الانتخاب، التلويح بالتأجيل للانتخابات، فرعية ونيابية، لأن بعضهم غير جاهز، وهذا شأنه، أما شأن اللبنانيين تجديد دمهم النيابي إذا أحسنوا الانتخاب! وقبله مثال، ربما أخطأ معظم المقاومة فيه، أنها لم تُعدم ميدانياً في الساحات العامة عملاء العدو، بل تصرّفت برفعة أخلاق لم يقدّرها المجرمون ولا مشغّلوهم، وشرائح شعبية كثيرة، إذ أحسنت الظن بالأجهزة القضائية، وكثيراً ما خاب ظنها، وأمل المواطنين فيها. ها هو بعض هذه الأجهزة بجدّد الخيبة عميقاً، أنه ما زال بالتفلّت نفسه وبالقصور نفسه، لذلك:

ألا يجدر برئيس الجمهورية تكريسُ مقولة الإصلاح في القضاء ليكون القضاء قضاء وقدراً يحمي سيادة لبنان وشرفاء شعبه. بخاصة انّ الحرب على لبنان اليوم أقوى ـ تجسّساً وعدواناً واستهدافاً؟ أم انّ الحرب الاستباقية انتهت، بحرب الأيام العشرة بفجر الجرود، والعدو واحد أكان تكفيرياً أم صهيونياً أم انعزالياً، ثلاث مظاهر لتنين واحد؟

ألا يجدر بوزير العدل اتخاذً إجراء يعيد الصدقية للقضاء، بخاصة في ميدان محاسبة العملاء، بجرم دخول كيان العدو ورفع معنوياته، وبجرم تسويغ شرعية احتلاله وكأنه جار طبيعي ممكن التواصل معه والتعامل معه بلا حساب ولا محاكمة.

إنّ تكريس تخلّي الدولة عن واجباتها، يتكرّر، كما تخلت عن الجنوب سابقاً، فنشأت مقاومة ما زال كثيرون يتهمونها أنها حلّت محلّ الدولة التي قصّرت، وما زالت تقصّر، ومصرّة على تقصيرها، خدمات وحرية وديمقراطية، وتسليحاً للجيش، وعدالة ودفع الحقوق والتواطؤ مع التعدّيات، وغضّ النظر عن العملاء…

ألا تتوقّعون أن تقوم حركة، تشبه ما كان يقوله ذلك القاضي الأميركي النبيل، عندما يسقط في يديه بزجّ المجرمين في السجون لقوة النفوذ الذي يتمتعون به، فتتمّ تبرئتهم، يقول لهم عند انتهاء كلّ محاكمة: لعدالة أميركا قبضة خارج هذه القاعة! وتتمّ تصفيتهم في اليوم التالي!

اللا دولة نفسها تدفع الناس لشريعة الغاب!

وتحضر قاعدة لأنطون سعاده قالها في خطاب الأول من آذار 1938 «إنّي أوصيكم بالقضاء على الخيانة أينما وجدتموها، لأنّه إذا لم نتخلّص من الخيانات لا نبلغ الغاية. والمجتمع الّذي يحتضن الخيانة ويفسح لها مجال الحياة مجتمعٌ مصيره إلى الموت المحتَّم».

لذلك بـ«فضلكم»… نتدحرج إلى نهايتنا لولا المقاومة!

باحث وناشر موقع حرمون haramoon.com وموقع السوق alssouk.net

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى