الخطوط الحمر الأميركية تترنّح في سورية والعراق
د. وفيق إبراهيم
يرمي النفوذ الأميركي بالمزيد من أوراقه الجديدة في ميادين سورية والعراق لوقف تراجعاته السريعة، لكنّه يتعرّض لهجمات مضادّة تفسد عليه خططه وتؤدّي إلى انهيار الخطوط الحمر.
ومقابل تقلّص نفوذهم في العراق بعد تحرير الجيش العراقي والحشد الشعبي لمناطق الموصل وتلّعفر، قذف الأميركيون بورقة كردستان التي دعا قادتها البرزانيون، الأكراد إلى استفتاء في الخامس والعشرين من الشهر الحالي لانفصال إقليمهم عن العراق، وزعمت واشنطن أنّها غير موافقة على هذا الاستفتاء… لكنّ أحداً لم يصدّقها، لأنّ التغطية الأساسية لكردستان هي السياسة الأميركية حصرياً مقابل رفض إقليمي وعربي كبيرين.
كذلك فإنّ «إسرائيل» والسعودية هما من الدول المؤيّدة لهذا الانفصال، وتُعتبران جزءاً مركزياً من النفوذ الأميركي في المنطقة.
وفيما يواصل مشروع الاستفتاء الكردي زعزعة العلاقات العراقية الكردية، تُبلغ واشنطن حكومة بغداد إصرارها على مشاركة قوات كردية في تحرير مناطق تحتلّها «داعش» في الحويجة وجوارها على أساس استبعاد الحشد الشعبي، وتستمرّ في تجييش فتنة سنّية شيعية من خلال العناوين المستهلكة، أيّ لا ضرورة لتعيين مسؤولين من المسلمين السنّة في المدن السنّية المحرّرة.
إلا أنّ الأكثر سوءاً، تجسّد بمحاولات أميركية دؤوبة لتوجيه حركة الجيش العراقي نحو «الحويجة» وإبعادها عن المنطقة التي تحتلّها «داعش» عند الحدود مع سورية. هناك المزيد أيضاً من قذف السمّ الأميركي… ألم تحاول واشنطن تفجير العلاقة بين حزب الله والعراقيين في حادثة نقل أسرى «داعش» إلى مناطق سوريّة في البوكمال؟ ونسي الأميركيون أنّ علاقات حزب الله بالعراق ليست مجرّد حلف عسكريّ سياسيّ بقدر ما يجسّد علاقة بنيويّة من الصعب فكّ عُراها لأنّها عميقة في الوجدان التاريخي؟
على خطّ سورية، لم يهدأ الأميركيون لحظة واحدة عن محاولات وقف الانتصارات الزاحفة، لكنّ مشكلتهم تركّزت في فقدانهم لمعظم الأوراق وبشكلٍ لم يتبقَّ لهم إلا الأكراد، وبعض أنواع المعارضات التي لا تمتلك إلا أصواتاً تصلح للمواويل الحزينة. والقوات الأميركية المتوزّعة على 17 قاعدة تنتشر في مناطق قريبة من الحدود العراقية السوريّة، وحتى داخل مناطق الأكراد في الشرق السوريّ. لذلك شجّعت واشنطن «إسرائيل» على قصف مركز عسكري صغير للجيش السوري في بلدة صافيتا من طائرات عسكرية أطلقت صواريخها من أجواء لبنان الشمالي، واخترقت جدار الصوت في لبنان الجنوبي في محاولة لاستفزاز حزب الله وإثارة الاعتراضات على دوره المقاوم من قِبل قوى لبنانية محسوبة على السعودية وواشنطن وبعضها أكثر.
ماذا فعلت الدولتان السوريّة والعراقية لاحتواء «الثعلبة» الأميركية؟
خرج العراق من محاولات تفجير علاقته بحزب الله سليماً، لأنّ قواه الشعبية الداخلية لم تقبل بهذه «الهرطقة» التي لا يصدّقها عراقي واحد، فكيف يصدّق العراقيون هذه التهمة الأميركية بأنّ «الحزب» يريد الإساءة إلى بغداد، وواشنطن هي التي كانت تشكو دائماً من عمق علاقة العراق بحزب الله؟
لذلك لم تصمد اللعبة الأميركية طويلاً، خصوصاً بعد أن تبيّن أنّ جزءاً منها مجرّد «صراع انتخابي» بين قوى عراقية متباينة، وذهب العراقيون أبعد من توقعات الأميركيين، فبدلاً من الهجوم على معاقل «داعش» في الحويجة، التي وضع الأميركيون مشاركة «البيشمركة الكردية» شرطاً أساسياً للسماح بها، هاجمت قوات عراقية من الجيش والحشد مناطق «داعش» غرب الأنبار قرب الحدود مع سورية، وحرّرت عكاشات وجوارها في إطار معركة كبيرة تستهدف منظّمات الإرهاب في مجمل المناطق العراقية المقابلة للحدود السوريّة، بما يشمل تحرير راوة وعانة. وهذا يؤدّي إلى سقوط أكبر خط أحمر أميركي في المشرق العربي، من دون مبالغة. والسبب أنّ هذا الهجوم يفتح الحدود بين العراق وسورية بشكل فعليّ وعمليّ على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، كما يعلن مقتل «داعش» والإرهاب بالضربة القاضية وليس بالنقاط… ما ينتج مشروع تدمير شبه نهائيّ للخط الأحمر الأميركي الكبير الذي يرمي إلى الفصل بين الدولتين لضرب مشروع الوصل الكبير المناهض لواشنطن.
وما التفجيرات التي نفّذها الإرهاب بشكل مريب في مدينة الناصرية، والذي استهدف مئات المدنيين، إلا الدليل القاطع على «الجنون الاستراتيجي» الذي تملّك «داعش» ورعاتها. وهناك خبراء عراقيون يجزمون بأنّ «داعش» نالت «تسهيلات لوجستية» من جهات «رسمية» مختلفة، أو تختبئ خلف الواجهات الرسمية والأميركية، حتى تمكّنت من تنفيذ هجماتها الإرهابية.
ويقول هؤلاء الخبراء، إنّ الفتح الكبير للحدود يؤدّي تلقائياً إلى تحرير المناطق الداخلية الصغيرة التي يحتلّها الإرهاب.
العراق إذاً يتحدّى الخطوط الحمراء الأميركية، فماذا عن سورية؟؟
تحالف الدولة السوريّة مع روسيا وقوى المقاومة، اخترق الخطوط الحمر الأميركية في نقطتين: الحظر الأميركي على تجاوز الجيش السوري وحلفائه لشرق الفرات، وهذا ما حصل بعد غارات أدّت إلى عبور الجيش إلى منطقة يعتبر الأميركيون أنّها تمثّل أكثر أوراقهم أهمية في سورية والعراق، وهي بالضرورة الورقة الكردية… وما أوردته الدكتورة بثينة شعبان مستشارة الرئاسة السوريّة في مقابلة تلفزيونية حديثة حول رفض سورية للخطوط الحمر والمناطق المحظورة، واعتبارها كلّ قوّة أجنبية غير متحالفة مع الدولة عدوّة تجب محاربتها، وكانت بذلك تعلن انتهاء زمن الخطوط الحمر والمختلفة الألوان، لأنّها كانت أصلاً مبنيّة على موازين قوى عسكرية تلاشت واضمحلّت بعد الانتصارات التي تحققت من حلب وحتى الحدود مع العراق.
وكأنّ إعلان الدكتورة شعبان جاء بتنسيق مسبق مع قوى لبنانية وإقليمية متحالفة مع سورية، هاجمت انطلاقاً من جنوب دير الزور وهدفها الوصول إلى بلدة البوكمال عند الحدود السوريّة العراقية بهدف توسعة الخط المحرّر من الحدود انطلاقاً من البوكمال حتى حدود الأنبار العراقي مع الأردن.. وبذلك تكون واشنطن خسرت «قدسية» خطوطها المخترقة في شرق سورية والعكاشات والقائم غرب الأنبار والمقابلة للبوكمال السوريّة.
أمّا الترجمة السياسية لهذه الهجمات العسكرية فعنوانها العريض يبدأ من الالتقاء السوري العراقي الفعلي ذي العناوين المختلفة، وترنّح النفوذ الأميركي مع أداتيه: الإرهاب والأكراد. والدليل أنّ «قوات سورية الديمقراطية» في سورية وقوات البرزاني الكردية في العراق، أي آخر الأدوات الفاعلة لواشنطن، تتسبّب بولائها لواشنطن باختراع أعداء جدد لها، وهم العرب والإيرانيون والأتراك. فمن يتبقّى في الإقليم؟
وهكذا يتّضح أنّ الجيوبوليتيك الأميركي يترنّح في سورية والعراق منقباً عن أدوات جديدة لاستمرار دوره في المشرق العربي، وقد يجده في توقيع صلح سعودي «إسرائيلي» تعتبر واشنطن أنّه متنفّسها الوحيد لإعادة خلط العلاقات في المنطقة، بما يعاود دعم نفوذ كبير عملت على تأسيسه منذ 1945.