من التحوّلات الميدانية إلى التحوّلات السياسية 2
د.زياد حافظ
… أما على الصعيد الإقليمي فالدور المتنامي للجمهورية الإسلامية في إيران يشكّل تغييراً نوعياً في المعادلة القديمة التي كانت تضمّ كلاً من إيران الشاه وتركيا والكيان الصهيوني. فحتى تركيا بدأت تبلور خيارات تدلّ على توجّه نحو الشرق بدلاً من الغرب. قصر نظر الاتحاد الأوروبي في رفض انضمام تركيا إليه فرض ذلك التحوّل. والجمهورية الإسلامية في إيران كانت حريصة، مع حليفها الاتحاد الروسي، على احتواء تركيا وقد نجحا بالفعل. فخيارات تركيا تحت حكم أردوغان أصبحت محدودة ولا مفرّ من الانخراط في المحور الآسيوي الجديد. من هنا نفهم صفقة الصواريخ الدفاعية الروسية S 400 مع تركيا. الجدير بالذكر هنا أنّ الكيان الصهيوني حاول الحصول عليها وفشل كما فشل في منع بيعها إلى تركيا. فهل هذا تمهيد لخروج تركيا من الحلف الأطلسي؟
أما على صعيد الكيان الصهيوني فهو يسجّل التراجعات المتتالية. فصورة دولة التفرقة العنصرية التي يريدها الكيان أخسرته الكثير من التأييد الذي كان يحظى به في العديد من الدول الأوروبية وحتى في الولايات المتحدة. من جهة أخرى رضخ الكيان للمنتفضين في الأقصى وفي المعتقلات عبر إضراب الأمعاء الخاوية التي نقلتها مواقع التواصل الاجتماعي العالمي بعد إخفاق الإعلام المهيمن الرسمي والموالي للكيان في نقل الصورة. المواقع الإلكترونية عديدة في العالم تندّد كلّ يوم بالأعمال الإجرامية التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني ما يساهم في تراجع التعاطف إنْ لم يُلغه كليّاً. ومن تجلّيات ذلك التراجع التصويت في إحدى هيئات الأمم المتحدة اليونسكو على أن لا حق لـ»إسرائيل» في مدينة القدس وخاصة الشق العربي من المدينة، وأنّ مدينة الخليل والحرم الإبراهيمي جزء من التراث العالمي ولا يحقّ للكيان تغيير معالمهما. كما أنّ تعاظم حملة مقاطعة البضائع والاستثمار وفرض العقوبات «بي دي أس» في أوروبا والولايات المتحدة حتى ضمن الجاليات اليهودية دليل على تراجع مكانة الكيان الصهيوني وعدم فعالية الدعاية الصهيونية.
من معالم التراجع الصهيوني تراجع الكيان في التأثير على مراكز القرار والنفوذ في العاصمة الأميركية. في مقال لموقع «فيترانز توداي» جاء فيه أنّ التصعيد الكلامي لقيادات الكيان ضدّ الجمهورية الإسلامية في إيران يعكس الهلع الذي يسود قيادة الكيان بعد تعثّر جهود نتنياهو في إقناع الإدارة الأميركية في ضرورة التدخّل العسكري في سورية. وموقع «فيترانز تودي» يعود لقدامى المؤسسات الاستخبارية الأميركية ويضّم أهمّ العقول والمحلّلين العسكريين والسياسيين. وهم على تناقض مع سياسات رموز الدولة العميقة التي يعرفونها جيّداً لكونهم كانوا جزءاً منها في السابق وما زالوا على تواصل وثيق مع مَن يعمل داخلها حتى الآن. لذلك قراءتهم قراءة مدروسة ومبنية على معطيات ليست دائماً في التداول وتتجاهلها عمداً وسائل الإعلام المهيمن عندما تتوفر. على سبيل المثال نذكر المقالات العديدة التي تفنّد مزاعم الإدارة والإعلام المهيمن في استعمال الجيش العربي السوري للسلاح الكيمياوي في مختلف محطّات الصراع في سورية.
وعلى ما يبدو فإنّ الرموز المؤيّدة للكيان داخل البيت الأبيض وداخل الإدارة وأروقة الكونغرس لا تستطيع إقناع مَن يمسك بمفاصل الدولة العميقة لتجيير قراراتها لمصلحة الكيان إلاّ بالحد الأدنى. فحتى الساعة لم يتمّ نقل السفارة الأميركية إلى القدس، كما لم يقبل الرئيس الأميركي بمهاجمة سورية وإيران. أقصى ما يمكن أن يقدّمه هو المزيد من العقوبات على إيران من دون المساس بالاتفاقية.
الخلاف في الأولويات واضح. إدارة ترامب تركّز على محاربة داعش بينما حكومة الكيان تعتبر أنّ «الخطر الإيراني» هو أكبر. جاء ذلك في مقالة لإيتمار رابينوفيتش على موقع «بروكنز». رابينوفيتش كان في السابق سفيراً للكيان في واشنطن واليوم هو أستاذ جامعي. يشاطره في هذا الرأي قائد السلاح الجوي للكيان الصهيوني الذي يعتبر أنه يمكن التعايش مع داعش في سورية، ولكن من المستحيل التعايش مع الجمهورية الإسلامية وحليفها حزب الله. إذاً التباين واضح مع الولايات المتحدة والزعيق الصهيوني خير دليل أنّ وجهة النظر الصهيونية لا تجد آذاناً صاغية لها في الإدارة.
كما أنّ الادّعاء الصهيوني بأنه اخترق القارة الأفريقية وحوّل الموقف التاريخي لمعظم دول القارة من مناصرة للحق العربي إلى الحياد في الحدّ الأدنى وإلى التأييد للموقف الصهيوني في الحدّ الأقصى أصيب بنكسة كبيرة بعد صدور قرار تأجيل القمة الأفريقية الصهيونية في توغو. ويأتي هذا التراجع بسبب الضغط الشعبي والرسمي لعدد من الدول العربية ما يشير إلى هشاشة الادّعاءات عن الغياب العربي أمام الكيان الصهيوني.
وأخيراً وليس آخر، هناك فقدان الكيان الصهيوني القدرة على التأثير على قرارات الجامعة العربية. فاللجنة التي تُشكّلها الجامعة بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية لمنع الكيان من حصول على مقعد دائم في مجلس الأمن يشكل تطوّراً هاماً وينقض ادّعاءات الكيان بأنّ الدول العربية أصبحت تريد التطبيع.
ما يبقى للكيان الصهيوني من أوراق هو القليل. يحاول الكيان الصهيوني استخدام الورقة الكردية. فما جاء في مقال نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» للأستاذ الجامعي يارون فريدمان هو تلازم المسار الكردي مع الكيان الصهيوني. فالتحريض الصهيوني على المضيّ بالانفصال هو لإرباك كلّ من الجمهورية الإسلامية في إيران والعراق وتركيا وسورية، كما هو أيضاً لإحراج الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي. فالفوضى التي يمكن أن تنتج عن عملية الانفصال قد تخدم بشكل مباشر المصالح الصهيونية. قد تكون الورقة الأخيرة التي يمكن أن يلعبها الكيان قبل التسليم بالهزيمة أو اللجوء إلى الحرب. نشير هنا إلى سلسلة مقالات الدكتورة نيفين مسعد في صحيفة «الأهرام» حول المسألة الكردية وفرص نجاح/ فشل المغامرة الكردية. أما بالنسبة للخيار العسكري فقائد السلاح الجوي الصهيوني أعرب عن ثقته بأنّ جيش الكيان يستطيع هزم حزب الله بمفرده، ولكن لا يستطيع ذلك إلاّ مع تدخل الولايات المتحدة. لكن هل هذا ممكن ضمن المعادلات الجديدة؟ نشكّ في ذلك لأنّ الولايات المتحدة عاجزة عن الدخول في حروب جديدة لاعتبارات عديدة تعود لجهوزية القوّات المسلحة والمزاج العام الأميركي الرافض لأيّ حرب جديدة.
أمين عام المؤتمر القومي العربي