شعر الومضة
أمين الذيب
الثرثرة الشعرية، كما وصفها الشاعر نزار قباني، كانت مؤشّراً لتجاوزه مرحلة الحداثة، التي وقعت فريسة لغة مضطربة، استنجدت بفائض الكلام لملامسة المعنى، على حساب طاقة المفردة ودلالاتها البنيوية والإدهاشية.
لم تعُد ثقافة العصر الجديد القائم على الإيجاز والاختصار الشديد باللغة، أن تتقبل عرض آراء شعرية تنسخ الراهن بحذافيره، في توصيف مملّ يعجز عن التأثير في المستقبل، لعدم امتلاكه الرؤيا بوظيفتها التغييرية لوقائع الحاضر، وعدم قدرته على خلق حياة جديدة تعبّر عن قلق الشاعر وتوتّره، وجنوحه الدائم لفضّ بكارة المستحيل الغامض.
ولعلّ أهمّ أسباب الانتقال إلى شعر الومضة، انتقال الشعر من المباشرة والخطابية إلى الإيحاء، أو الانتقال من الشعر الذي يُلقى أمام متلقّين في مهرجانات شعرية لغاية التوعية، والتنوير، إلى الدعوة إلى قصيدة تقرأ في جوّ خاص. وقد شهد عصرنا تواتراً في الأحداث الساخنة التي لم تعد تسمح بنظم القصائد الطوال، الأمر الذي أدّى إلى وجود سمة الانفعالية والتعبير المقتضب والموحي. شعر الومضة وهو ذات مجموعة من التوقيعات النفسية المؤتلفة في صورة كلية واحدة، وهو أمر يعني أن للصورة أهمية استثنائية في شعر الومضة.
ويتطلّب هذا اللون من الشعر المأزوم ذي اللحظة الانفعالية المحددة فطنةً، وذكاءً من الشاعر، ونباهة من المتلقّي لأن شعر الومضة يُبنى بناء توقيعياً، أي بناء صورة كلّية للقصيدة من خلال صورة واحدة تقدّم فكرة، وانطباعاً بتكثيف شديد.
وقد أطلق النقّاد مصطلح «التوقيعة» على القصيدة التي تبدو كالوميض، أو البرق الخاطف، وعلى الصورة الشعرية ذات الإشعاع القوي حين تتولد منها إثارة مفاجئة في اللاشعور. إنها تُلتقط في لحظة انبهار ضوئي يكشف جزئيات، وحساسيات ذهنية في غاية الحدّة قد تكون ناقدة، أو ساخرة تهكمية.
ويرى بعض النقّاد أن الشاعر عزّ الدين المناصرة واضعُ مصطلح التوقيعة في منتصف الستينات في قصيدته «توقيعات». لكن المتتبع حركةَ الشعر العربي يرى أن د. طه حسين قد كتب في هذا النوع في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، ونقله إلى العربية نثراً في مقدّمة كتابه «جنّة الشوك»، ودعا إلى الاهتمام بهذا النوع الأدبي، والإضافة إليه كونه يحتاج إلى قدر كبير من المعاناة، والتكثيف البلاغي، والمفارقة التي تعدّ روح التوقيعة أو الأبيغراما ـ على حد تعبير كولردج.
لم يعد شاعر الحداثة يحفل بالخطابية في شعره بل التفت إلى الإيحاء لأن قصيدته وليدة ظرف مختلف، فما يشهده عصرنا من أحداث ساخنة لم يعد يسمح بالتطويل الشعري، ويقتضي هذا الأمر أن تكون القصيدة مكثفة موحية مؤلفة من عدد من التوقيعات لها شعريتها الخاصة. إنها شعرية الومضة، شعرية التقابل والتضادّ المعبّرة عن الحال النفسية المتأزمة لدى الشاعر: تأزم في الزمان والمكان، تعدّد في الظلال الرؤياوية، استرسال سردي، فتأزّم، فتشوّق إلى النهاية التي تبلغ عندها الأبيات ذروة الختام. إنها المفاجأة الأسلوبية. وهنا نتساءل: هل هي جمالية شعرية جزئية، أو جمالية سياق عام؟
ركز توفيق أحمد على جمالية السياق ليكون لخطابه وظيفة انفعالية تولد وظيفة تنبيهية لدى المتلقين يصل بعد السرد الشعري إلى لحظة الإدهاش. ولعل أجمل ما في شعرية التوقيعة أنها تولي أهمية كبرى للمتلقي، فيُظهر الشاعر درجة من الذكاء تتطلب بالمقابل من المتلقي أن يكون على درجة عالية من النباهة ليستوعب التوقيعة المتضمنة رمزاً وسخرية، والمولدة غير المُنتظر بالمنتظر ـ على حدّ تعبير جاكبسون. وأهم ما يميز التوقيعة السابقة نهايتها الخاطفة التي تبلغ عندها ذروة الختام، وهي متعالقة بشدة مع البداية، ونتيجة لها لأنها تبلور الرؤيا الشعرية، وتجعلها في حال تنام داخلي إلى أن تصل إلى النهاية. وذلك كله بفضل الانزياحات والاستعمال غير العادي للغة، فتأتي النهاية غير عادية، وهي طرفة أسلوبية يعتمدها الشاعر لتوليد اللامنتظر من المنتظر فإذا بالكلمات القوية تتلاحم، والألفاظ المتنافرة تتماسك، ونصل إلى التوقيعة التي تثبت أن النظام اللغوي يجسد النظام المعنوي لدى الشاعر.
لقد تنامت الفكرة السابقة تنامياً درامياً شائقاً مجسداً رغبة المبدع في الانتماء لتبلغ هذه الرغبة ذروتها في الخاتمة. فالتراب الذي تحتاجه جذور الوردة هو تراب الوطن، والأرض. وما يثير الاهتمام في التوقيعة السابقة التنويع والتكثيف في الشكل الخطي لفعل الكلمة. فقد كرّر الفعل «تعرف» مع بداية الشطر الشعري. وتكرار هذا الفعل مسنداً إلى الفاعل غير الحقيقي «الوردة» أمر يؤكد عمق الدلالة، ويزيد الحيرة، ويحمل الهم الوطني. وقد استعان الشاعر في تأكيده المعنى بالتكرار لتتعزّز المناجاة، وتترسخ أبعادها في وعي القارئ، فينتقل من تكرار ذي دلالة نفسية إلى تكرار حامل معه دلالاتٍ فنيةً تضفي بعداً إيقاعياً على نص التوقيعة.
تأتي الجملة الشعرية المتشحة بالزي الفني بعد الصورة الذهنية، وأبرز ما يميّزها التكثيف في اللغة، والتسلسل في السرد الشعري وصولاً إلى لحظة الذروة والإدهاش فتكون رسالة الشاعر ذات سمة انفعالية مولدة للوظيفة الانتباهية لدى المتلقي.
إن الانسجام بين محوري الاختيار والتأليف يكشف شعرية خطاب التوقيعة. وهو خطاب يضج بالثنائيات الضدّية، والجمل المحولة من الصور الذهنية إلى الصور الخطية المنفية والمؤكدة. فجدلية الحياة لا تكون إلا من خلال ثنائيات الممكن
والمستحيل، الرغبة والخوف… فالومضة شكل من أشكال الانزياح الذي يباغت المتلقّي ويخيب أفق انتظاره. فاللامنتَظَر هو تلك التركيبة الأسلوبية المتميزة القائمة على مصاحبة لغوية غير عادية.
والكتابة خطاب لا يمكن أن يتمرّد من دون وجود الآخرين. وهذا القلق يجعل الشاعر يمدّ يده إلى الآخرين محترقاً بالجمر، وقابضاً عليه. ولعل أهم ما يخرج به قارئ توقيعات توفيق أحمد أنه يركز على ردّ فعل قارئه ليصل به إلى مرحلة القارئ المثالي الذي يشكل جملة قراءات ناجمة عن قدرة تأويلية لديه، محاولاً إبراز الوظيفة الأسلوبية «الومضة» التي تظهر أدقّ تشعّبات الفكر.
شاعر وناقد