ترامب سيحصد الخيبة مع إيران لتهديدها بالحصار الاقتصادي وانصياعه لنتنياهو

يتصدر أزمة المشهد الأميركي فريقان شبه متطابقين في التوجهات والخيارات: أقطاب في المؤسسة العسكرية وما تمثله من امتدادات، وفريق المحافظين الجدد الذي يتسلح بإدارة تصغي إليه بدقة وينتشر بقوة داخل مرافق الدولة الرئيسة.

الفريق الأول يخوض حروباً طويلة «متتالية» منذ سنوات لم يستطع حسم أي منها بالمفهوم العسكري الصرف. بل يأخذ عليه مناوئوه أنه أخفق في التعلم من تجاربه وها هو يكرّرها، المرة تلو الأخرى، «علّ نتيجة مُرْضية تبرز» من براثن الفشل الميداني.

قرّرت إدارة الرئيس ترامب، بدعم وتأييد واسع من هذين الفريقين، الانتقال إلى فتح جبهة جديدة، إلى جانب «الأزمة النووية مع كوريا الشمالية،» بإطلاق تصريحات متشدّدة وهادفة إلى النيل من الاتفاق النووي المبرم دولياً مع إيران، عززتها بتجديد السردية الرسمية السابقة المناوئة لإيران «وسلوكها الضار في الإقليم».

التوجه المشار إليه لا ينبغي أن يفاجئ أحداً، إذ دأب ترامب وفريقه على التنديد بالاتفاق النووي خلال حملته الانتخابية وعزمه على «تمزيقه» إرباً. كما أنّ إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن منحت الأولوية لنهج المواجهة والتهديد المباشر لإيران، وأرست شعوراً بأنّ الباب مشرع لمفاوضات مع إيران حول ملفها النووي.

إدارة بوش «اشترطت» قبول إيران المسبق لمجموعة من الشروط والقيود قبل بدء المفاوضات، مع إدراكها بأنّ اشتراطاتها لا يمكنها الدفاع عنها في الساحة الدولية كما تردّد بعد انتهاء ولايته الرئاسية. أما أقصى ما كانت تربو إليه فهو «الادّعاء أمام حلفائها أنها تبدي مرونة في التعامل مع إيران»، من دون تحمل ما ينطوي على الالتزام بالتفاوض من أعباء.

ما أفضى إليه الجدل الداخلي هو عودة الحياة إلى شرايين «مراكز الفكر والأبحاث ومجموعات الضغط اللوبيات ، وكبار الممولين «إلى دائرة صنع القرار والذين شكلوا قطباً نافذاً يحسب له في عهد الرئيس باراك أوباما، وأنفقوا مبالغ كبيرة قدرت بعشرات ملايين الدولارات، آنذاك، للحيلولة دون مضي الرئيس أوباما في التوصل للاتفاق النووي.

معارضة متبلورة

تسلّم الرئيس ترامب، نهاية الأسبوع الماضي، مسودة مذكرة تتضمن توصيات محدّدة بشأن إيران، صادق عليها وزير الدفاع جيمس ماتيس، وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ومستشار الأمن القومي هيربرت ماكماستر وآخرون. ما رشح عن ذلك اللقاء لمجلس الأمن القومي هو تطابق وجهتي نظر الوزيرين، ماتيس وتيلرسون، اللذين ناشدا ترامب عدم التعرض للاتفاق جنباً إلى جنب مع حلفاء واشنطن الأوروبيين مناشدينه، أيضاً، المحافظة على سير مفعول الاتفاق.

محور المذكرة جاء باتجاه تصعيد الضغوط على إيران بغية كبح جماح برنامجها الصاروخي الذي لا يخضع لنصوص الاتفاق الدولي المبرم معها وتتبنى تقييد حركتها في المصارف الدولية إلى جانب إجراءات أخرى.

فريق المحافظين الجدد سالف الذكر كان له دور في صياغة مسودة المذكرة، كما كان متوقعاً، لا سيما العناصر والمجموعات المؤيدة للكيان الصهيوني.

أما الهدف المرجو من ذلك الجهد، فقد أوضحته يومية «فورين بوليسي»، في نشرتها الإلكترونية، 14 أيلول الحالي، بأنه عبارة عن «قنبلة يدوية تطلق على صميم الجدل الدائر حول إيران،» يتمثل في حثّ الرئيس ترامب على الإعلان بأنّ الاتفاق النووي «لم يعد يصلح لخدمة المصالح الأميركية بعد اليوم » في تقريره المقبل للكونغرس في 15 تشرين الأول المقبل.

ما يترتب على «إعلان الرئيس،» وفق النشرة، إطلاقه حملة «حظر اقتصادي عالمي» على الفور ضدّ إيران «إن لم تمتثل لشروط معينة خلال مهلة زمنية لا تتعدى 90 يوماً، منها السماح للمفتشين الدولين الدخول إلى منشآتها ومواقعها العسكرية».

وسيتبع الحظر، وفق نصّ المذكرة، إعادة فرض حزمة العقوبات التي رُفعت عن إيران بموجب الاتفاق، وتدابير أخرى تشمل فرض قيود على صادراتها النفطية.

غياب وزير الخارجية تيلرسون عن الظهور الإعلامي في ظلّ أزمات ملتهبة كان ملحوظاً، عوّضه بسلسلة لقاءات وتصريحات الأسبوع الحالي، أبرزها إعلانه خلال زيارته لندن أنّ معطيات الرئيس ترامب لم تنضج بعد لإعلان سياسة محدّدة تجاه إيران.. «الرئيس قال بوضوح .. إنه ينبغي علينا الأخذ بعين الاعتبار مجمل التهديدات الإيرانية، وليس قدراتها النووية فحسب».

هذا على الرغم من شهادة المفتشين الدوليين، التابعين لوكالة الطاقة الدولية، بأنّ إيران «.. لا تزال ممتثلة بالكامل لبنود الاتفاق،» كما أوضح مدير الوكالة يوكيا أمانو. كما أنّ تقرير الوكالة الدولية الأخير، في الأول من أيلول الحالي، لم يأتِ على ذكر أية مخالفات ارتكبتها إيران.

معارضو الاتفاق يقرِّون بجزئية إجراء الوكالة الدولية حملات تفتيش متعدّدة ناجحة منذ سير مفعول الاتفاق، مستدركين أنّ طواقم الوكالة غير مخوّلة لتفتيش مواقع عسكرية «يعتقد» أنها لا تزال نشطة في جهود الأسلحة النووية ما «يوفر لإيران فرصة تمنحها القدرة على إخفاء النشاطات السرية الجارية على الأسلحة النووية عن أعين مفتشي الوكالة الدولية».

رافق ذلك الجدل مذكرة موقعة من أكثر من 80 خبيراً وأخصائياً في علوم الأسلحة وجهود عدم انتشارها، في أميركا والدول الغربية، ناشدت الرئيس ترامب «إعادة النظر بجهود إجهاض الاتفاق مع إيران .. والذي أثبت جدواه للجهود الدولية للحدّ من انتشار الأسلحة النووية».

اعتراضات أميركا

تتشعب التحفظات والاعتراضات الأميركية على الاتفاق النووي إذ تتداخل فيها العوامل النفسية والتاريخية والسياسية ومصالح «إسرائيل،» وروح الانتقام من «الثورة الإيرانية» وما سببته من تعقيدات للاستراتيجية الأميركية ومصالحها في المنطقة، واستحضار حادثة احتجاز الرهائن الأميركيين الديبلوماسيين والانقياد خلف نزعة شيطنة الآخر والثأر منه.

لعلّ أبرز الاعتراضات هو ما لم ينصّ عليه الاتفاق النووي المبرم مع الدول العالمية، وتستعيد الإدارة ومؤيديها ما يمثله برنامج إيران الصاروخي من مخاطر، لا سيما أنّ «إيران تشرع في بناء منشأة للصواريخ الباليستية الموجهة في سورية والتي قد تستخدَم ضد إسرائيل،» بحسب ما أفاد مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأميركية ليومية «واشنطن بوست» في 14 أيلول، فضلاً عن «دعم إيران» للقوى والحركات الإقليمية المعادية للسياسة الأميركية».

من «نتائج» الاتفاق النووي تدخل السلطة التشريعية، الكونغرس، في استصدار قانون يقيد حرية حركة الرئيس، أي رئيس، وإلزامه بتقديم تقرير دوري كلّ 90 يوماً «يصادق» فيه على امتثال إيران لبنود الاتفاق من عدمه، إضافة إلى تقديم تفسير ما إذا كان رفع العقوبات عن إيران يخدم المصالح القومية الأميركية.

التقرير الدوري كان يرمي إلى تقييد حركة الرئيس أوباما، تحديداً، وأضحى عبئاً على إدارة «تمتثل» للحزب الجمهوري نفسه. نُقل عن لسان الرئيس ترامب لمعاونيه أنه غير متحمِّس لتقديم ذلك التقرير، وإنما أقدم عليه بعد طول تردُّد، مفسحاً المجال أمام تكهنات بعدم منحه المصادقة في المرة المقبلة، التي تحين في الخامس عشر من الشهر المقبل.

حلّ موعد آخر على الرئيس ترامب يتعلق بإيران، 14 أيلول الحالي. وبعد طول تردُّد قرر «تجديد إعفاء إيران من سلسلة عقوبات اقتصادية» فرضت عليها سابقاً من دون الإشارة إلى عقدها صفقة ضخمة مع شركة بوينغ الأميركية لتجديد أسطولها للنقل الجوي بطائرات حديثة، كأحد الحوافز لقراره.

خيارات أميركا

يواجه ترامب وإدارته معضلة «ممارسة ضغوط على إيران والتخلي عن سياسات الرئيس أوباما، من ناحية، وتفادي الانسحاب الصريح من الاتفاق النووي» لما يترتب عليه من أزمات مع حلفاء واشنطن الأوروبيين وعدد لا بأس به من القيادات السياسية الأميركية من الحزبين، فضلاً عن القلق من «مخاطر ردّ فعل إيران من بينها الانتقام من القوات الأميركية المنتشرة بوفرة في العراق وسورية».

خيار «عدم منح المصادقة» وما يستدعيه من خطوات لفرض حصار إقتصادي مشدّد على إيران، يقابله الاستمرار بالوضع الراهن ومنح المصادقة مرة أخرى. الترويج للخيار الأول جاء على لسان المندوبة الأميركية الدائمة في الأمم المتحدة، نيكي هايلي، بالتلميح للكونغرس بممارسة دور أكبر في الاتفاق عبر «فتحه باب النقاش حول إعادة العمل بالعقوبات السابقة على إيران،» والعزف على وتر المخاوف للمضي في تطبيق حصار اقتصادي شامل يعزّزه قرار من الكونغرس «إن أحجمت إيران عن فتح منشآتها العسكرية لفرق التفتيش الدولية».

موازين القوى داخل الإدارة لم تتضح معالمها النهائية، إذ لا يزال فريقا التأييد والمعارضة متشبثين بموقفيهما، ومهمة ترامب تستدعي التوصل إلى «إجماع» فريق الأمن القومي تحديداً كي يقدم على خطوته المقبلة.

في هذا الصدد، يجدر التذكير بمضمون المذكرة التي أوردتها نشرة «فورين بوليسي»، سالفة الذكر، ولغة التهديد لطهران إذ يستدعي القرار الأميركي المرتقب «إقناع ايران بأنه في حال طبقت الولايات المتحدة فرض حظر دولي شامل عليها، فإنّ نهاية عهد الاستقرار السياسي الحالي والانهيار الاقتصادي هما أقرب تجسيداَ من فرصة تخليها عن التزاماتها النووية».

ترجمة لغة التهديد أعلاه أوضحته يومية «نيويورك تايمز» في 14 أيلول، بأنه عودة إلى مخططات تغيير النظام «عبر دعم القوى والمجموعات التي تتبنى الديموقراطية» في إيران.

خيار «التهديد بعدم المصادقة» للكونغرس يستدعي تدخل الكونغرس خلال شهرين 60 يوماً لاتخاذ قرار بإعادة تفعيل العقوبات السابقة، وما سيرافقه من معاقبة مؤسسات أوروبية تتعامل مع طهران بعدما رُفع نظام العقوبات السابق.

مخاطر وتداعيات قرار عدم التصديق عبر عنها بقلق نائب وزير الخارجية السابق، بيل بيرنز، وأحد الشخصيات المحورية في إدارة المفاوضات السرية التي أفضت إلى إبرام الاتفاق النووي، وقال ليومية «واشنطن بوست» في 14 أيلول: «.. سيتم تفسير القرار عن حقّ بأننا نتهرب من الاتفاق، ما سيضعنا في موقف أضعف، وليس أقوى، في التعامل مع سلوكيات إيران».

العامل الغائب

الوسائل الأميركية المتعدّدة تتفادى مجرد الإشارة إلى دور «العامل الإسرائيلي» في السياسة الأميركية «المقبلة» نحو إيران.

أما صحيفة «هآرتس»، فقد أشارت في 15 أيلول إلى تشجيع «نتياهو ووزير دفاعه» للرئيس ترامب على العدول عن الالتزامات وإلغاء الاتفاق «ما سيصب في مصلحة إسرائيل» مستدركة أنّ المؤسسات الاستخباراتية المتعدّدة، في تل أبيب، لا تشاطر نتنياهو مخاوفه.

عن مركز الدراسات الأميركية العربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى