من جنون «ثورات» التفتيت إلى جنون الانفصال
د. رائد المصري
ربما كتب على أبناء هذه المنطقة العيش في دوامة الصراعات والحروب وتداخل المصالح والنفوذ الإقليمي والدولي، من دون وجود أفق للحلّ يمكّن الشعوب باختلاف تلاوينها وتقاطعاتها أن تحيا بهدوء واستقرار وأمن وسلام. فربّما هذا هو قدر الجيوبوليتيك، أو منطق النزاع الطائفي، الذي أهْلك كيانات الدول وعطّل من مفاعيلها، أو العصبيات المذهبية والقبلية التي تفشّت إلى السطح وراحت تبحث عن خصوصياتها الذاتية، معتبرة أنها الفرصة المناسبة لتحقيق أمنياتها وأحلامها النوستالجية التاريخية، وأنّه الظرف المناسب لملء فراغ ما بعد الإرهاب المتطرّف الذي عمّم توحّشه في ظاهرة غير مسبوقة، فأضعف من سلطات الدولة المركزية واستنزفها حتى باتت على مشارف الاقتطاع والتقسيم لبدء دورة جديدة من الحروب الدموية..
ليس الحديث هنا في معرضه موجّهاً لفئة إثنية أو قومية من باب الاستعلاء وهضم الحقوق، بل من باب التسليم بوقائع وتجارب تاريخية مصلحية لشعوب سالت دماؤها في سبيل الدفاع عن أوطانها. فجنون الشعوب العربية بما أسْمته الثورات التي اندلعت منذ عام 2011 إلى اليوم، لم ينتج إلاّ حالات القهر والقتل والدمار والتخريب والفقر والأمية، ناهيك عن الخطاب السلفي الراديكالي وإثاراته العنصرية والكراهية والإلغاء بحقّ غيره من شعوب هذه الأمة. وحتى من باب المصلحة الوطنية والقومية للأمة لم ينتج كلّ ما ذكر إلا المأساة والاستحضار الخارجي لدول الغرب الاستعمارية عبر عمليات تحضيرية وتسليك مجهّز للتدخّل ووضع يدها على الثروات وخلق طبقة سياسية كولونيالية تابعة أنتجها البنك الدولي وأدواته، بحيث يتكرّر مشهد التاريخ العربي والإسلامي إبّان المدّ التحريري واندحار الاستعمار المباشر، لتبقى أدواته ونخبه من الساسة المتواطئين مع الخارج ولا زلنا نعيش مفاعيل عمالتهم ونتاجها إلى يومنا هذا…
فما أنْ تحدّث الإعلام الغربي والعربي عن قرب انتهاء مشروع إقامة الدولة الإسلامية المتمثّلة بتنظيم داعش في العراق وسورية، حتى بانت علامات التمدّد للرغبات الدفينة والمصلحية لدى بعض قادة إقليم كردستان العراق وقوات سورية الديمقراطية المدعومة أميركياً، بالسير نحو الاستفتاء والانفصال عن الدولة المركزية، من دون النظر الى اعتبارات استمرارية هذه الكيانات الوليدة وبقائها في المستقبل..
هي فعلاً حالة من الجنون والهستيريا تحكم نخب هذه الأقوام، وبكلّ موضوعية ومقاربة للواقع، فحتى الظروف الداخلية مثلاً لإقليم كردستان العراق غير ناضجة أصلاً، لا من خلال المؤسسات الدستورية السويّة ولا من خلال سيادة القانون، ولا من خلال تداول السلطة، بل هو هروب من واقع ومن عقد تاريخية استحكمت وتحكّمت بقادته وبنخبه، فجعلت مسعود البرزاني على خصومة مع القادة والأحزاب الداخلية في الإقليم. وهو أيضاً في مواجهة مباشرة على طريق التوريث السياسي لإبنه ودون ذلك عقبات، إضافة لمحاولاته وضع اليد على ثروات البلاد النفطية وبيعها من دون الرجوع للسلطة المركزية في بغداد، بعد أخذه كلّ مخصّصات الموازنة من الدولة المركزية، بما بات يشكّل عبئاً كبيراً على الدولة العراقية، وهذا إذا ما عطفنا إليه التأزّم الحاصل لدول الإقليم المجاورة كإيران وتركيا وسورية، والتصلّب الدولي الرافض لمشروع الانفصال، وكلّه ينبئنا بفشل هذا المشروع الذي لم يكتمل بلوغه بعد، بل ربّما قد يؤسّس لحروب مستقبلية بشعارات لن تنتهي أبداً، ولنا مثالٌ على انفصال إقليم جنوب السودان وعبرة في الحروب القبلية المستمرة بين أبناء الشعب الواحد ومع السلطات المركزية لتقاسم الثروات وتوريدها، منتقلين من حالة الدولة الكيانية برغم عوراتها وشوائبها الى الحالة القبلية والعشائرية في نظام الحكم. وهي الحالة العدمية التي لا يهضمها إلاّ بعض العرب أو الأقوام التي اتخذت قراراً مسبقاً بالعودة الى الوراء كطريق أوحد لنظام الحكم وطرق العيش…
كذلك هي حال أكراد سورية اليوم الذين يريدون إجراء انتخابات المجالس المحلية بمعزل عن السلطة المركزية في دمشق، جاعلين أنفسهم في حالة صدام مع أبناء العشائر في شمال وشرق سورية، وداخلين في حروب ونزاعات قبلية وعشائرية قبل الحديث عن عدم قبول السلطة المركزية في دمشق، تلك السلطة التي خاضت كلّ تلك الحروب منذ أكثر من سبع سنوات للحفاظ على كيان الدولة وجغرافيتها، لأنّها الصيغة المثلى لأيّ نظام حكم وليس هناك من أيّ حلّ بديل عن هذه الكيانات الجغرافية سوى الوحدة بين دولها على أسس اجتماعية وسياسية واقتصادية وهو ما ننشده ونعيش ونقاتل لأجله..
الجنون الانفصاليّ للأكراد أو غيرهم من الإثنيات والمذاهب لن يكتب له النجاح في الخروج عن إطار الدول المركزية القومية بالكامل، تلك الدول التي أنْشئت منذ معاهدة وستفاليا عام 1648، وتثبّتت وأثبتت قوّتها وأهميتها في الحكم، ولاحظنا المعارضات الأوروبية الجارية حول محاولات انفصال إقليم كاتالونيا وما يشهده من أحداث وتطورات دراماتيكية، أقله في المرحلة الراهنة حيث يعيش النظام الدولي مرحلة الفوضى العالمية، وهو يتلمّس طريقه لوضع أسس تفاهمات سياسية واقتصادية لم تتبلور بعد، فبدل العمل على الترقّب والمساعدة والحوار في تثبيت أركان الدولة المركزية لتصحيح خللها الذي أصيب واهتزّ جراء المدّ التكفيري واستخداماته الوظيفية، نجدهم اليوم يتحفّزون للانقضاض على ما تبقى من مقوّمات دولهم وركائزها لإعلان الاستقلال والانفصال، وهو ما لن ترحمهم فيه شعوب المنطقة ولو بعد حين.
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية