موازين القوى تتغيّر وتل أبيب تفقد توازنها…
إذا كان ثمة تساؤل حول التهديدات التي وضعت تل أبيب فجأة في حالة من الذعر الكامل، عليكم أخذ ما ستقرأونه في ما يلي بعين الاعتبار. ففي غضون أسابيع قليلة فقط، حقق جميع خصوم «إسرائيل» مكاسب استراتيجية كبيرة، ما أدّى الى تغيير جذريّ في آفاق العديد من ساحات القتال، سواء السياسية أو العسكرية. وسنلقي الآن نظرة على التطورات في لبنان وسورية وتركيا والأردن وغزة، وندرس مدى تأثير كلّ هذا على الخيارات الإسرائيلية الآخذة بالتقزّم في المنطقة.
ويكمن جوهر الأسئلة في ما اذا كانت «إسرائيل» سترضى بهذه الحقيقة الشرق أوسطية الجديدة، أم أنها ستتعرّض للتهديد على أكثر من جبهة. وفي كلتا الحالتين، ولأول مرة على مدى عقود، تواجه «إسرائيل» خصوماً مخضرمين، تعلّموا القتال، خاضعين لأمرة قيادة واحدة، ويتمتعون الآن بغطاء القوى العالمية العظمى.
كتبت شارمين نارواني ترجمة وإعداد: ليلى زيدان عبد الخالق
اختبرت تل أبيب أسابيع سيئة للغاية في الفترة القصيرة الماضية. حيث تحوّلت موازين القوى بشكل مفاجئ عاصفةً بالمنطقة، في اتجاه قصم ظهر «إسرائيل» فتمكن خصومها من تحقيق أهمّ المكاسب الاستراتيجية من الجهات كافة.
يكمن جوهر هذه القضية في الهاجس الإسرائيلي حيال تصاعد التأثير الإيراني في المنطقة. فالاتفاق النووي الإيراني الذي أنهى عزلة الجمهورية الإيرانية عام 2015، شكل نكسة حقيقية للمؤسسة الإسرائيلية، غير أنّ ما أصابها في العمق الصيف الفائت، كان النجاح السياسي والعسكري الساحق الذي حققته الحكومة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد وحلفائه إيران وحزب الله.
لذلك، توجهت القوى المختصة في «إسرائيل» إلى الولايات المتحدة وروسيا لمحاولة استعادة بعض من نفوذها المفقود على الأرض… لكنهم عادوا من واشنطن خاليي الوفاض، عاجزين عن كسب الضمانات في إبقاء القوات الإيرانية وحلفائها المتعاونين معها في الجنوب السوري، فيما سعت الولايات المتحدة وروسيا في تموز الماضي إلى إقامة منطقة هادئة قرب الحدود الإسرائيلية.
كذلك، لم تصل مشاورات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي إلى نتائج مرجوة. وتصف الروايات الروسية نتنياهو في تلك المحادثات، بوصفه «انفعالياً» و «متشبّثاً» بآرائه، حيث أكد بوتين بهدوئه المعهود: «إنّ إيران هي الحليف الاستراتيجي الرئيسي لروسيا في الشرق الأوسط». وبالنسبة لنتنياهو، فإنّ بوتين وفّر لنتنياهو ما يُعتبر فتاتاً قياساً بالتصريح السابق، قائلاً: «إنّ إسرائيل هي أيضاً شريك مهم لنا في المنطقة».
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي وغيره من كبار المسؤولين قد شنّوا هجوماً شديداً بُعيْد ذلك الاجتماع، واعدين بـ«الدفاع عن أنفسهم بكافة الوسائل المتاحة»، من خطر الطموحات الإيرانية في سورية، ملوّحين بإمكان الهجوم العسكري على الأسد في عقر «قصره في دمشق».
غير أنّ الروس لم ينسوا قط، أنه بعد وقت قصير من اللقاء الأخير الذي عقده نتنياهو مع بوتين في آذار، شنّت «إسرائيل» ضربات ضدّ سورية – حليف روسيا الاستراتيجي، والتي استهدفت إحداها مكاناً قريباً من القوات الروسية.
وفي هذه المرة، يبدو أنّ بوتين كان يرسم خطوطاً حمراء مع «إسرائيل». وفي أعقاب اجتماعه مع نتنياهو، أعلن الروس إنشاء نظام دفاع جويّ موحد مع سورية، «قادر على تدمير أهداف في حدود 400 كيلومتر على ارتفاع يصل الى 35 كيلومتر».
إلا أنّ التهديدات الإسرائيلية لم تتوقف. فما الذي يفسّر الذعر المستشري في «إسرائيل» حالياً؟
لبنان
أغلق حزب الله والجيشان اللبناني والسوري، فصلاً من احتلال أراض لبنانية لسنوات طويلة من قبل داعش وجماعات النصرة الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة. شنّت القوات الثلاث هجوماً عسكرياً مذهلاً قضى على جبهة النصرة في غضون ستة أيام فقط، وعلى داعش خلال تسعة، بما في ذلك الوقت الذي يقضيه في المفاوضات.
ووصف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله العملية الناجحة لمكافحة الإرهاب بـ «التحرير الثاني» بعد التحرير الأول للبنان من قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 2000.
وفي السنوات التي سبقت هذه المعركة، قام حزب الله والجيش اللبناني بتنسيق جهود مكافحة الإرهاب في لبنان، ما وُصف بالتعاون غير المسبوق، الذي أثار غضب الإسرائيليين والأميركيين على حدّ سواء. وتقدّم الولايات المتحدة التدريب والأسلحة للقوات المسلّحة اللبنانية، غير أنها تعتبر «أن حزب الله هو عبارة عن منظمة إرهابية» على الرغم من كونه مشاركاً أساسياً في المجلس الوزاري وفي البرلمان اللبناني.
إنّ تحرير المنطقة الحدودية اللبنانية السورية، لم يقتصر فقط على تحرير قوات حزب الله لانتشارها على الخطوط الأمامية بما فيها المناطق الجنوبية المتاخمة لـ«إسرائيل» بل يمثل في المقام الأول الحدود السورية الكاملة التي استعادها الجيش السوري من الإرهابيين منذ بداية الأزمة السورية. وكان السيد نصرالله قد أعلن بعد انتهاء القتال «إنّ العدو الصهيوني يبكي على أيتامه ويعترف بهزيمة مشروعه وأصدقائه في سورية».
سورية
قد تكون وجهة نظر حزب الله صحيحة. فداعش خسرت مساحات كبيرة وآلاف الكيلومترات شرق سورية لصالح الجيش العربي السوري وحلفائه، ولم يتبقّ لهذه المجموعة الإرهابية سوى منطقة واحدة صغيرة بالقرب من مرتفعات الجولان المحتلّة من قبل «إسرائيل». وهذه المنطقة الواقعة جنوب غرب سورية هي أيضاً موطن لعدد من الجماعات المسلّحة الأخرى، وأبرزها جبهة النصرة، التي كان أطباؤها الإسرائيليون يقومون دوماً بمداواة جرحاهم.
أما الإسرائيليون، الذين نادراً ما هاجموا جبهة النصرة، قاموا بإطلاق عشرات الهجمات على القوات السورية وتلك المتحالفة معها. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون قد أعلن عام 2016 ما يلي: «في سورية، إذا كان الخيار بين إيران وبين تنظيم الدولة الإسلامية، فسأختار التنظيم». ويؤيّد العديد من السياسيين الإسرائيليين هذه الفكرة التي ترى أنّ تدمير الدولة الإسلامية يشكل خطأً استراتيجياً، يدعو إلى إبقاء داعش في جميع المناطق بهدف «عرقلة السعي الإيراني للهيمنة الإقليمية». وبالنظر إلى تركيز «إسرائيل» على احتواء هذا النفوذ الإيراني، فربما ليس من المستغرب أن تكون الموجة الأخيرة من الانتصارات السورية على داعش، قد قرعت أجراس الإنذار في تل أبيب.
ومن أجل العمل على تفاقم وازدياد النكسات الإسرائيلية، تمّ إيقاف العمل باتفاقية التصعيد بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي نصّت على دعم القوات السورية المتحالفة في مناطق القنيطرة الجولان السورية ، درعا، والسويداء التي يسيطر عليها الروس حلفاء سورية.
الأردن
في عمّان، تمّ إطلاق مركز رصد تصعيد مشترك لهذه المنطقة الجنوبية، حيث من المرجح أن يُجبر الأردنيين على تأمين وتطبيع الحدود الشمالية مع سورية. وفي وقت مبكر من هذا الصيف، انضمّ الأردنيون الى التحالف السعودي المدعوم من «إسرائيل» والذي يضمّ غالبية «الدول السنيّة» ذات التأثير في المنطقة. وفي ذلك الحين، رفعت الأردن الصوت عالياً للعمل على إزالة المقاتلين المدعومين من إيران والمتواجدين على حدودها مع سورية. أما اليوم، فقد انهار حلف «الناتو العربي» في ظلّ الصراع القاسي بين دول مجلس التعاون الخليجي، ويبدو أنّ الأردنيين يعيدون النظر بموقفهم الإقليمي، ويتطلّعون الى تقبّل رؤية حملة «التصعيد» في المنطقة والتي تقودها كلّ من روسيا وتركيا، وبالطبع إيران.
أما عن شروط تطبيق اتفاق التصعيد الجنوبي، والذي عُقد سراً بين الولايات المتحدة وروسيا، غير أنّ هذا الاتفاق لم يتضمّن كلمة لغوية واضحة تشير إلى التقليل من دور إيران، حزب الله، وغيرهما من حلفاء سورية العسكريين.
وهذا يعني أنّ «إسرائيل» لم تعد قادرة على الاعتماد على المسلّحين الإسلاميين الذين يعرقلون سيطرة الحكومة السورية على الجنوب. ويدلّل هذا أيضاً على أنّ الأردن، والذي عاد الأسبوع الماضي فقط الى فتح معبر طربيل الحدودي مع العراق، يتحرك الآن تدريجياً نحو إعادة فتح معبر نصيب الحدودي مع سورية. كما يمكن أن تساهم المكاسب التجارية لهذين الإجرائين بما يترواح بين مليار وملياري دولار لصالح خزينة الدولة، ما يشكل حافزاً كبيراً للأردن للّعب بنعومة مع سورية.
تركيا
يأتي التنويع السياسي والأمني في الأردن على أثر زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى عمّان، وهو الداعم الأساسيّ لتسليح الجماعات الإرهابية التي تقاتل الجيش السوري وحلفائه.
يعود أردوغان مجدّداً إلى ساحة المواجهة مع الروس والإيرانيين بعد مشاركته المجتزأة مع السعوديين في مشروع «الناتو العربي» الموجّه ضدّ إيران. وتفيد تقارير وسائل الإعلام أنّ الرئيس التركي عرض تنسيق الوساطة مع إيران لتهدئة الشكوك المستمرّة في الأردن حول منطقة التصعيد.
ولكن، ما الذي يفسّر تحوّله؟
بينما لم يتبنّ أردوغان صراحة أيّ دور لسورية أو لإيران في الحركة النشطة جنوب حدوده، إلا أنّ تطوّرين إقليميين عاجلين قد خففا من حدّة موقفه وأعاداه الى المدار الإيراني الروسي.
ينحصر الأول بالأزمة السياسية الكبرى التي تعصف بدول مجلس التعاون الخليجي، وتحريض كلّ من السعودية والإمارات والبحرين ضدّ قطر. وعلى غرار حليفتها التركية، فإنّ قطر تعتبر من أبرز الداعمين لجماعة الإخوان المسلمين، وتتبع أجندة متنوّعة للسياسة الخارجية، والتي تتضمّن طبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية مع إيران.
فقد تمكّنت دول مجلس التعاون الخليجي من إيجاد فجوة أخرى في المنطقة، والتي كانت حتى ذلك الوقت تتألف من مجموعة مخيمات مؤيدة لإيران، فيما تشكل قطر وتركيا معسكراً ثالثاً، وتسعى إلى التخفيف من حدّة الضغوط السعودية الإماراتية من خلال إعادة التفاعل مع إيران وحلفائها.
أما التطوّر الثاني، فيتمثل بدعم واشنطن لمقاتلي المعارضة الكردية في الشمال السوري. وقد حثّ أردوغان الأميركيين على التخلي عن دعمهم لهؤلاء الأكراد، الذي يمثلون في المقام الأول فروعاً سورية لحزب العمال الكردستاني في تركيا، وهي جماعة ترى إليها أنقرة وواشنطن على أنها إرهابية.
وتجاهل الأميركيون مطالب أردوغان، على الرغم من أنّ قوات الدفاع الذاتي أبدت النية الصريحة لاحتلال وتحرير الشمال السوري بأكمله من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط وهي منطقة تمتدّ على طول الحدود التركية.
وفي ما يتعلق بهذه القضية، تتشارك أنقرة الآن الهموم مع طهران، بغداد ودمشق التي تعارض بشدّة التطلعات الكردية. وتجري إعادة المواءمة هذه على خلفية استفتاء كردستان، وهو ما تعارضه العواصم الأربعة. أما «إسرائيل»، التي تتمتع بعلاقات ممتازة مع الحكومة الكردية في أربيل، فهي الكيان الوحيد الذي يدعم هذه الاستفتاء، لغاية تاريخه. فكردستان تشكل مسألة استراتيجية هامة جداً بالنسبة لتل أبيب. إنّ إنشاء كيانات اتحادات كردية في سورية والعراق، يعني في نهاية المطاف تقسيم وإضعاف الدول العربية. والأكثر أهمية من هذا كله، أن تعمل هذه الاتحادات الكردية كمخزونات وعوائق جغرافية تحدّ من إمكانية تمدّد إيران بالقرب من الكيان الإسرائيلي.
لذا، فإنّ إعادة انخراط تركيا مع إيران وروسيا، لا يسهم فقط في استقرار الدولة السورية، وإنما يتخطى ذلك الى الحدّ من تنفيذ الأطماع الإسرائيلية في تحقيق الاستقلال الكرديّ.
حماس
يتألف «محور المقاومة» من أربعة أطراف: إيران، سورية، حزب الله وحماس. غير أنّ الأهداف المتضاربة في سورية استبعدت حماس من المجموعة حتى الآن. وقد أعطت قيادة حماس الجديدة أولوية للعلاقات المحايدة مع جميع الدول الإقليمية، وسعت الى إعادة العلاقات والتمويل من الجمهورية الإسلامية.
وفي الأسبوع الماضي، أعلن يحيى السنوار ما يلي: «تعتبر إيران الداعم الرئيسي لكتائب عزّ الدين القسّام الجناح العسكري لحماس لناحية الدعم المالي والدعم بالأسلحة». وأعرب عن تفاؤله بأنّ «الأزمة السورية ستنتهي، الأمر الذي سيفتح آفاقاً لإعادة تفعيل العلاقات مع سورية».
وبالنسبة لـ «إسرائيل» فإنّ هذا يعني أنّ الخلاف بين قطاع غزة الذي تقوده حماس وإيران قد انتهى، وأنّ الأسلحة والمساعدات سوف تتدفق الى مجموعة المقاومة الفلسطينية دون عوائق.
وقد أدّت الأحداث التي وقعت على الحدود الغربية والشمالية والشرقية لـ «إسرائيل»، وذلك فجأة، وفي غضون أسابيع قليلة، ما أدّى الى إضعاف التوازن الجيوسياسي الذي كان يصبّ في مصلحة تلّ أبيب. فقبل بضع سنوات، كانت سورية تتفكك، والعراق مشتتاً، وأبواب لبنان مشرّعة، وغزة تصارع وحيدة.
أما اليوم، فإنّ احتمال تمتّع إيران بممرّ أرضي متاخم بين حدودها ومنطقة الجولان المحتلة، أكبر من أيّ وقت مضى. وقد اكتسب محور المقاومة خبرة عسكرية هائلة في السنوات الستّ الماضية في سورية والعراق ولبنان. والأهمّ من ذلك، أنّ ذلك قد تمّ من خلال تنسيق القوات والاستخبارات وخطط المعارك العسكرية من مركز قيادة واحد، وذلك لأول مرة في تاريخها التحالفي. وعلاوةً على ذلك، يتمتع هذا المحور الآن بغطاء سياسيّ دوليّ، مؤلف من عضوين دائمين في مجلس الأمن، هما روسيا والصين. يتمتع الروس الآن بخبرة عسكرية كبيرة إلى جانب ثلاثة أعضاء من هذا المحور. ويحرص الصينيون على توسيع رؤيتهم الاقتصادية في دول غرب آسيا، آخذين بعين الاعتبار أهمية إيران بوصفها مركزاً رئيسياً لخطوط أنابيب النفط والغاز.
وفي ما تمضي هذه البلدان قدماً في محاولة إخماد الإرهاب الإقليمي وإعادة بناء بنيتها التحتية ومجتمعاتها، تاركين «إسرائيل» تعاني وحدها في بردها القارص، تتضاءل خيارات تلك الأخيرة، إذ يبدو أنّ خططها العسكرية لا تحظى بالمزيد من الاهتمام. ومن الواضح، أنّ «العصا» هي الخيار الأمثل الذي ينجذب اليه الإسرائيليون بأقصى ما يملكون من اهتمام، أما خيار الذهاب الى حرب عدوانية ضدّ لبنان أو غزة، أو ضربات عسكرية ضدّ سورية، فإنه لأمر مستبعد للغاية.
لا يزال حزب الله يطالب بعودة الأراضي اللبنانية المتبقية المحتلة من قبل «إسرائيل»، كتلال كفرشوبا ومزارع شبعا، وكذلك سورية بالنسبة للجولان. وكلاهما سيقوم بذلك الآن انطلاقاً من موقعه المعزّز أكثر في الشرق الأوسط. ويبقى السؤال الأبرز: هل ستكون لدى «إسرائيل» القدرة على الاعتراف بهذه الأوضاع الجديدة؟
محللة ومعلقة جيوسياسية في «الشرق الأوسط»