لورنس القرن الحادي والعشرين
د. رائد المصري
الصيغة التي انطبعت فيها وعاشت عليها البلدان العربية منذ قيامها بعد انحلال السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، هي عقدة الخوف والفوبيا التقسيمية لها من قبل الغرب الرأسمالي الاستعماري، حيث أمضت هذه الدول وشعوبها قرناً من الزمن، وهي تبحث عن ذاتها وكينونتها وثقتها المفقودة والمسلوبة، فلم تجدْ ولم تحقق أياً من الحضور الفاعل على المستوى الدولي أو الإقليمي، باستثناء بعضها كالعراق وسورية ومصر، بسبب التَّكالب الداخلي عليها للطبقات الكولونيالية التابعة والتربُّص الاستعماري الغربي لنهب ثرواتها بعد زرع الكيان الصهيوني المريض في جسد هذه الأمة البِكْر…
لقد حاول الصهيوني برنار هنري ليفي إبَّان اندلاع ما يُسمَّى بالثورات العربية، تقليد شخصية لورنس العرب وسطَّر النظريات السياسية وأراد إسقاطها على العرب كآيات منزَّلة تُهدي الى الطريق القويم نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان، محاولاً بذلك تقليد حقبة «سايكس بيكو» التي فرضتها حينها القوى العالمية، بحسب التقسيم الدولي للإنتاج وللعمل بعد الحرب الأولى، وفقاً لإرادة المنتصرين فيها، فكان التقسيم على شاكلة هذه الكيانات الوطنية للعالم العربي الحالية وبما يتوافق مع نُظُم إنتاجها الاقتصادية ومساراتها السياسية والاجتماعية…
في خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في ليلة العاشر من محرَّم، أشار وحذَّر من مغبَّة القيام بمغامرات جديدة تعكس على المنطقة واقعاً تفتيتياً وتُدخلها في أتون صراعات قد تمتدُّ عشرات السنوات ولا تنتهي، مستشهداً بزرع الكيان الصهيوني المريض في جسد الأمة النظيف، والذي مضى على قيامه حوالي السبعين عاماً من النزف والاستنزاف والحروب والمؤامرات والفتن والاحتلالات والاغتصاب والقهر بحق الشعوب العربية والمسلمة.
فدعونا نقارب الوقائع والمعطيات اليوم بمسؤولية وطنية وعربية كبيرة جراء إرادة انفصال كردستان العراق عن الدولة المركزية، وحول علاقة هذا الإقليم بالكيان الصهيوني وهي طبعاً علاقات تاريخية دُفعوا إليها دفعاً بالإضافة للقابلية والشهية التي تحكم بعض نُخَبه وساسته التي تفضِّل الارتماء في الحضن «الإسرائيلي» والغربي نتيجة عقد النقص الذاتية التي يشعر بها المرء أحياناً كثيرة، وهو بطبيعة الحال مسؤولية كبرى وَجَبَ على العرب القيام بها ولَمْلَمة شظاياها ومنع تحقيقها بمختلف الطرق والأساليب الممكنة. وهذا يتطلَّب تكثيف الجهود والتنسيق والمباشرة بالحوار بالتوازي مع القرار السيادي الحرّ والاستقلالية من قبل دول المركز بعدم التفريط بتجزئة الدولة والسَّماح والتهاون مع ما يُؤسِّس لضرب الاستقرار في المنطقة.
وبالعودة للحديث عن لورنس التقسيم الجديد في المنطقة، فهو يكون ويتظهَّر أقلُّه وفق إرادة المنتصر والمضحِّي الذي واجه بصدره كلَّ مؤامرات التفتيت والنزف بدءاً من الكيان الصهيوني مروراً بحروبه الاستنزافية، وصولاً إلى قيادة مشاريع السلفيات الجهادية التكفيرية التي ضربت الدول وجعلتها عاجزة عن القيام بمسؤولياتها وفرض سلطتها، فالمنتصر اليوم هو محور المقاومة الذي أثْبت قوته وحضوره ورؤيته الاستراتيجية ومسؤوليته الكبيرة التي تحمَّلها ودفع الأثمان الباهظة من الدماء والتضحيات والخسائر وكلُّه يبقى أخفّ وأفضل وأقلّ كلفة من الاستسلام الكامل لمشاريع القتل والدمار والخراب…
فلا يجب التسليم بقضاء الغرب وقدره لتنفيذه مشاريعه بالمطلق، لا من خلال نشر التكفير ولا من خلال الحثِّ وتسهيل الانفصال لبعض الأقوام والإثنيات، فهي مشاريع باتت مكشوفة والشعوب على دراية بها وتستطيع أن تبني موقفاً وتُكوِّن رأياً عاماً ضاغطاً بهذا الاتجاه. لكن في المقابل يجب الاعتراف بحقِّ الشعوب في رؤية مستقبلها وممارسة خصوصياتها الذاتية بحرية تامة والابتعاد عن الخطاب العنصري تجاهها والاستفادة من تجارب الماضي التي أنتجت كياناً غاصباً كـ»إسرائيل» وفصائل سلفية شوفينية مقيتة، وكلتاهما تمتلكان البعد والنظرة الإستنزافية ذاتهما كأداتين وظيفيتين بيد الاستعمار الغربي، الذي باتت مشاريعه أمام علامات استفهام كبرى، بشأن مستقبله الاقتصادي وديمومته واستمراره، لذلك هو ينتقل من سيناريو تقسيمي استنزافي إلى آخر لإنهاك جسد الأمة التي لن تستكين أو تُسلِّم له… فهذا هو قدر الشعوب الحيَّة، وهذا هو منطق صراع الوجود الذي انفطرت عليه مكوناته كلُّها، فقط محاولة الاستنهاض وتحريض الوعي الجمعي لها هما الكفيلان بصدِّ كلِّ المحاولات الاستعمارية القديمة الجديدة على دول المنطقة والتي تسقط واحدة بعد الأخرى…
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية