كي لا تموت القصيدة

أمين الذيب

يكاد الشعر أن يكون المُدوّنة الأكثر شيوعاً في ذاكرة الشعوب، منذ الملاحم والأساطير السومرية مروراً بالشعر العربي، حتى يومنا هذا.

تميّز الكلام الشعري القديم بلغة تختلف عن لغة الدولة ـ حمورابي ـ بفخامتها وعمق مدلولاتها ورمزيتها، أكان في الغزل، أو المديح، أو ما تعلق منها بالتأسيس للحكميات، وتفسير نشوء الكون والخصب، ومفهوم الجنة، كما في أسلوب الدعوة إلى السلام واستنهاض الشعوب لتبني إنسانية تليق بالإنسان.

حتى أن الشعر القديم، حين تكلّم عن الآلهة، كان يرمز إلى مفهومها، كأداة لانبعاث الكون، كأسطورة انفصال الأرض عن السماء. كان بهذا المعنى سابقاً للنصّ الديني، أو أنّ النصوص الدينية القديمة استمدّت روحها من الملاحم والأساطير كمادة غنيّة لتجعل منها أساساً لفكرة الدين ووحدة الخالق. وأعتقد جازماً، استناداً إلى دراسات عدّة، أن اليهود استفادوا من هذه الحالات ليحرّفوا ويؤسّسوا، لبداية حركة دينية تخدم مصالحم وأهدافهم وغاياتهم، ومنها تحويرهم قصة الخلق وما تلاها من تفاصيل ووقائع ما زالت سائدة حتى الآن.

بقي الشعر المؤرّخ الأجدى لحضارات الشعوب، واستمر من حقبة إلى أُخرى، حيّاً في ذاكرة الحضارات ووجدانها، التي شكلت مواد شعره ومستواه من حيث تجانسه ومواءمته حيوية المراحل الحضارية التي مرّ بها. فقد سجّل الشعر تقاليدها وعادتها وحروبها ومديحها وهجاءها، وكلّ ما يتفرّع عنها من غزل وسواه.

في العصر الجاهلي، تميّز الشعر بمتانة الشكل، أما المضمون فكان تمظهراً لقيم وتقاليد ثابتة لخلوّها من الأحداث باستثناء الحروب والقيم القبلية كالهجاء والمديح والغزل. واللافت أن هذا النمط الشعري الموزون المُقفّى استمرّ في الإسلام، أي لم يتأثّر بتبدّل القيم والمفاهيم إلا قليلاً، خصوصاً بعد أن أتى الشاعر إلى البلاد الخصيبة، وبقي يتأرجح بين القديم والحداثة إلى العصر الثاني في الحكم العباسي.

في العصر الحديث تصدّت مجموعة من الشعراء، بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، فؤاد الخشن، سلمى الخضراء الجيوسي، يوسف الخال، أدونيس وسواهم، لرتابة القصيدة العمودية، نتاجاً لحركة فكرية ثورية تجديدية تعبيرية، أنتجت تبدّلاً بالشكل والمضمون وفي اللغة ومفرداتها، فأطلقت القصيدة الحديثة، قصيدة التفعيلة، بشكلها اللغوي الجديد وموسيقاها المغايرة كقوة دافعة للتعبير عن المفاهيم الجديدة التي يتميّز بها العصر. وامتدّت القصيدة الحديثة، تقارع المدافعين عن الماضي وضرورة الحفاظ عليه كما يدّعون، إلى العالم العربي الذي تبنّاها بعد أن فرضت حقيقتها ووجودها.

وكأيّ نبض حيّ، وبسبب سياق التطوّر الإنساني وتسارعه، وتبدّل قِيَمه وأهدافه وغاياته، ووجهة نظره إلى الحياة والكون والفنّ، بدأت قصيدة التفعيلة تترنّح أمام بروز شعر الومضة كحالة تماهي العصر، وتخوض غماره وخصائصه التي تقوم على الإيجاز والاكتناز في آن. فكي لا تموت القصيدة، بابتعاد المتلقّي عن المطوّلات والتشعّب والانفلاش في كلام شعريّ كثير ليعبّر عن معنى قليل، وأيضاً للتماهي مع التطوّر الذي فرضته الحياة العصرية التي تتّسم بالسرعة وبالمتغيّرات، ولقدرتها، أي الحياة، على التكثف في توافر المعلومات لدى الأجيال الجديدة، التي انفتحت المعارف أمامها بوساطة إنجازات التواصل الإلكتروني، لم تعد السرديات الشعرية تطال اهتماماتهم ولا تلبّي حاجاتهم في عصر الومضة الكثيف.

شعر الومضة والقصة القصيرة جدّاً، وما تحمله من ثقافية عميقة موجزة ودالّة إلى حدّ الإدهاش، باتت تعبّر عن العصر، كرافعة لترهّل حدث بفعل التطوّر.

شاعر وناقد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى