استفتاء انفصال كردستان أداة أميركية لعرقلة المسار الظافر لمعسكر خصومها
انتعشت محاولات التعرّف على مفاصل «الموقف الأميركي» الغامض، عقب إجراء الاستفتاء في كردستان العراق، خاصة في ظلّ تراجع داعش بشكل ملموس في كلّ من العراق وسورية، ومواكبة المعلن من الأهداف الأميركية لمرحلة «ما بعد داعش» في عموم المنطقة.
ولم يعد من باب التكهّن ما إذا كان الاستفتاء والانفصال يشكلان قوائم «المشروع البديل» الذي أعدّته واشنطن لتفتيت الدول العربية بالدرجة الأولى، وربما تركيا. هي ليست فرضية أو ترفاً فكرياً، بل تستند إلى واقع ملموس أفرجت عن بعض جوانبه «البنتاغون» عام 2001 «لإعادة تشكيل الشرق الأوسط»، بتقسيمه الى «دويلات صغيرة» متناحرة «باستثناء إسرائيل والأردن ولبنان» وفق الاستراتيجية التي بلورها الأدميرال آرثر سيبروسكي لوزير الدفاع آنذاك، دونالد رامسفيلد.
وعقب استهداف سورية مطلع 2011، استقرأت يومية «نيويورك تايمز»، استراتيجية البنتاغون، 29 أيلول/ سبتمبر 2013، بشّرت فيه عزمها «لإعادة تشكيل الشرق الأوسط»، يجري بموجبها تقسيم العراق وسورية واليمن والسعودية. وبرّرت الصحيفة خطة البنتاغون بالقول «الخريطة المستجدة ستقلب اللعبة بشكل استراتيجي لكافة الأطراف تقريباً».
خطاب يحجب النيات
الموقف الرسمي الأميركي من استفتاء كردستان العراق راوح بين مفردات ضبابية وأخرى حمّالة أوجه، وغابت التحذيرات النارية المخصصة لخصوم واشنطن، فضلاً عن تجنّبها استخدام مصطلح «الإدانة».
حافظ الخطاب على عدم «استفزاز» قادة كردستان العراق مناشداً التريث وبأنّ المضيّ بالاستفتاء «يشكل مغامرة تهدّد بزعزعة البلاد.. ومفاقمة المصاعب للشعب ولإقليم كردستان». ومن ثم أعلنت واشنطن عن «قلقها العميق» من المضيّ بعقد الاستفتاء في موعده لتستدرك لاحقاً تُطمئن الإقليم «بعدم تعرّض العلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة للتغيير على ضوء الاستفتاء غير الملزم» قانونياً ودستورياً.
عرضت واشنطن «وساطتها» بين بغداد وأربيل لتدوير زوايا الخلاف بينهما، كما قيل، وأوفدت مبعوثها الرئاسي بريت ماكغورك للقاء مسعود البرزاني وإعلان دعم بلاده تأجيل الموعد الى المستقبل القريب، كخطوة اعتراضية لامتصاص غضب الدول المجاورة. بهذا أوضحت الإدارة الأميركية انّ توقيت الاستفتاء «ربما» لم يكن مناسباً وتفضيلها الإرجاء.
لعلّ أفضل الأدلة على «خطأ» افتراض ضبابية الموقف الأميركي جاء على لسان بعض «القادة الكرد»، عقب لقاءات متكرّرة مع المبعوث الرئاسي ماكغورك، بكشفهم ما دار وراء الكواليس مؤكدين على أنّ واشنطن «لا تعارض إجراء الإستفتاء.. أما تصريحات ماكغورك فلها مفعول مؤقت خدمة لمصالح آنية ضرورية».
لن يتعذّر على المرء تتبّع تطورات الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، لاستيضاح معالم مواقفها وما تضمره من مخططات تسعى لإنجازها تدريجياً، بالتتابع وإنضاج الظروف المحلية للبناء عليها والانقضاض على الهدف المقبل.
«الاستثمار» الأميركي في عامل الكرد، وخاصة كرد العراق، ليس وليد اللحظة، وكانوا العنصر الحاضر دوماً في الصراع مع بغداد منذ خمسينيات القرن الماضي. وإنْ استثنينا «العامل الإسرائيلي» لبرهة قصيرة، نجد أنّ واشنطن «تبنّت مطالب كرد العراق»، تدريجياً: حكم ذاتي، دور سياسي بارز في «العملية السياسية» بعد الاحتلال الأميركي، وتوظيف حملة السلاح منهم في خدمة المشروع الأوسع والأشمل كأداة من أدوات التفتيت والشرذمة، والتلهّي بدعم أميركي يحقق «استقلال» الإقليم عن البلد الأمّ.
أبرز مزايا الاستثمار الأميركي مع الكرد كان في البعد العسكري والدعم السياسي. وبرزت في واشنطن أصوات بعض الساسة والعسكريين على السواء تشيد بـ «القوات الكردية هي القوة الوحيدة المؤتمنة بالتوظيف في خدمة الاستراتيجية الأميركية في سورية والعراق… وهي بمجموعها القوة القتالية الوحيدة غير المنضوية تحت لواء التحالف السوري – الإيراني – الروسي».
بل ذهب بعض العسكريين أبعد من ذلك بالقول: «المسلحون الأكراد هم بمثابة القوات البرية الأميركية على الأرض»، في إشارة واضحة لطمأنة قلق الشارع الأميركي من عدم توفر النية لاستخدام القوات الأميركية مباشرة في ساحات الصراع.
في المقابل، تعي الولايات المتحدة وتدرك جيداً أنه ينبغي عليها «تقديم وعود معينة يمكن تفسيرها إلى حدّ بعيد بأنها تدعم استقلال كردستان العراق» إن شاءت الظروف، فإنّ الدويلة «المستقلة» بإمكانها تسخير مواردها البشرية والجغرافية في خدمة المخططات الأميركية بعيدة المدى في المنطقة، لا سيما عند الأخذ بعين الاعتبار توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن وكذلك بين الأولى وعواصم حلف الناتو.
في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى وعود أطلقها الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند لقادة الكرد بالتوازي مع الوعود الأميركية لحثهم على الإنخراط المكثف في تفتيت سورية. عرض هولاند على ضيفه رئيس «وحدات حماية الشعب» الكردية، صالح مسلم، 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، بأنه «سيصبح رئيس دولة إذا وافق على الالتزام بإقامة دولة كردية» في سورية.
تصريحات المبعوث الرئاسي الأميركي سالفة الذكر، لناحية عدم نضوج التوقيت، واكبتها أحاديث لمسؤولين في الخارجية الأميركية أيضاً. فهل تخشى واشنطن حقيقة قيام دولة كردية على مقاسها؟
الإجابة تقودنا للتسلح برؤية شمولية للأوضاع «غير المستقرة» في عموم المنطقة، في هذا الظرف بالذات، والانعكاسات المترتبة عليها في مجمل الاستراتيجية الأميركية. بعض جوانب قلق واشنطن تتمثل في نشوب صراع جديد بين الكرد والعرب وما سينجم عنه من «تأجيل» تحقيقها أهدافها المرسومة. وربما هذا ما كان يدور في خلد المبعوث الرئاسي ماكغورك والتصريحات التالية للمسؤولين الأميركيين وأفاقت أميركا على ضرورة ترديد حرصها بـ«الحفاظ على عراق موحد وديمقراطي» مصطلح ينمّ عن ترف خيال السياسة والبعد عن الواقع.
تتبنّى واشنطن «مظالم» بعض الأقليات بقدر ما تخدم مخطط التفتيت المرسوم، إذ انّ «الأغلبية»، في أيّ قطر أو دولة، ليست بحاجة الى دعم الولايات المتحدة.
يشار في هذا الصدد إلى استحداث واشنطن عيد «يوم الأمم الأسيرة»، إبان الحرب الباردة، للتمايز عن خصومها «غير الديمقراطيين». إذ أعلنت الخارجية الأميركية آنذاك عن «دعمها لوحدة أراضي الاتحاد السوفياتي»، وفي نفس الوقت طالبت بحصول دول البلطيق الثلاث على استقلالها: لاتفيا وليثوانيا وايستونيا.
في العراق، يتطلب الأمر مزيداً من الجهود لتهيئة الظرف الذي باستطاعة الكرد فيه الإفلات من «نفوذ بغداد» تفادياً لإحراج الموقف الأميركي، من ناحية، وللإنعكاسات «الفورية» المترتبة عن ذلك على كرد سورية أيضاً.
الهاجس الأميركي «الإسرائيلي» المشترك من تقويض مخطط التفتيت يعيد للواجهة رهان الطرفين على دق إسفين في الجغرافيا السورية يضمن عدم تواصل مثلث طهران دمشق – حزب الله.
إن تسنّى لكرد العراق إنشاء «دولة مستقلة» في المدى المنظور فمن غير المرجح أن تفلح الدولة المستحدثة في وقف تدفق الإمدادات على طول الخط العابر للأراضي العراقية من إيران باتجاه لبنان. أما في الناحية المقابلة، فإنّ الكيان المزمع انشاؤه سيوفر لواشنطن المزيد من أوراق الضغط على طهران بفتح جبهة مواجهة إضافية بمحاذاة حدودها هذه المرة.
خيارات البنتاغون
تحتفظ البنتاغون بخمسة قواعد عسكرية في «إقليم كردستان العراق»، لاستضافة مستشاريها العسكرين من «القوات الخاصة» والاستخبارات، والذين يشرفون على تدريب وتأهيل مجنّدي الكرد من «البيشمرغة»، امتداداً لعلاقات سابقة بين الطرفين تعود لنحو نصف قرن من الزمن.
تدفق الأسلحة الأميركية على «كردستان العراق» جرى ترتيبه مع حكومة بغداد الموالية لواشنطن، علاوة على ما تحتويه القواعد الأميركية هناك من أسلحة ومعدات متطورة كما أنّ لـ«إسرائيل» مخازن أسلحة في الإقليم.
نوايا التفتيت والتقسيم قفزت من حيّز التكهّنات إلى باب الواقع، في الاستراتيجية الأميركية وما هو مرسوم للعراق وسورية تحديداً.
عند العودة لمقال «نيويورك تايمز» الاستكشافي، 29 أيلول/ سبتمبر 2014، نجد قوائم المرحلة المرئية ماثلة أمامنا. البنتاغون أوضحت أنّ «حدوداً جديدة قد يجري رسمها بشكل متفاوت، وربما بآليات وسبل فوضوية. قد تبرز دول أنهت خوض مراحل الفيدرالية، والتقسيم الناعم أو الحكم الذاتي، وانتهاء بطلاق الجغرافيا».
مركز الدراسات الأميركية والعربية