أطفئوا الإضاءة… سيبدأ فيلم لا ينتهي كلّ الحبّ… جان شمعون

أميّة درغام

بكثيرٍ من الفنّ أو هو كثير من الحبّ، كانت تلك التحية إلى السينمائيّ جان شمعون مؤخراً في مسرح المدينة. أو هو الفنّ الحبّ معاً، أقنومان لا يفترقان عند شمعون بعد رحيله جسداً منذ نحو شهرين، والروح لم تفارق، لا بل تتغلغل أكثر فأكثر في زمنٍ صرنا فيه بأمسّ الحاجةِ إلى هؤلاء، «الكرام القليلُ»، الذين صنعوا لأجيال من الذاكرة وجهَ إنسانٍ.

إنسان غير مجبول بالنسيان، إنسان سخّر قلبه وروحه وعقله والعدسة ليلتقط تاريخاً حديثاً لا تزال رائحة الدم منه تدرك أنوف من يشعرون ولا يتغاضون عن المشهد، ليقول كلمته ولا يرحل… لا يرحل.

إنسان عرف أن ذاكرتنا هنا قصيرة، لا بل أنّ هناك من يدفعنا كي نمحو ذاكرتنا من فلسطين إلى سورية ولبنان والعراق والأردن… فوثّقها ورواها. فكيف يكون قد رحل وهو لم يرحل؟

إنسان لم يهادن ولم يبع قضيته، لا بل تشبث بها أكثر فأكثر، في وقتٍ باع كثيرون وهادنوا وخضعوا و«زحفبطنوا» بالإذن من الأديب الراحل سعيد تقيّ الدين . جاءت ذكراه في زمن هزيمتهم هم ونصرنا نحن، أو لنقل في زمن يخطو نحو النصر، فبرزت مع الخطوات لإحقاق الحق، أصواتٌ نشاز تريد لنا أن نقول إننا نحن النشاز وإنها هي أساس اللحن والمقام… وأيّ مقامٍ!

غريبٌ هذا الزمن، فهؤلاء السائرون نحو الخضوع والتعامل مع العدو، كمن يذهبون إلى الحجّ «والناس راجعة».

في مراجعة لأفلام جان شمعون الذي حمل نضاله دوماً على كاهله وفي قلبه وفي عدسته، ترافقه شريكته في النضال والحياة المخرجة مي المصري، التي كانت أوّل من نقل لنا فيلماً وثائقياً روائياً من نابلس مع الانتفاضة الأولى، فردّت لنا الروح وكشفت النقاب عمّا يخفيه ببراعة الإعلامان الغربي و«الإسرائيلي»، وأحياناً كثيرة الإعلام العربي، لتكون لنا الإطلالة الأولى على الداخل في عزّته وكرامته ونضاله، لا على استسلامه.

في مراجعة لهذه الأفلام التي عرض من بعضها مقتطفات في مسرح المدينة، نعي أهمية شمعون والمصري معاً. الذاكرة هي ما يحاربوننا به، يريدون محوها، والذاكرة هي التي أرّخها شمعون والمصري. وشمعون في مقابلة متلفزة معه عام 2005، يردّ على من يقولون لا نريد أفلاماً عن الحرب، فهل انتهت الحرب؟

وجدتُني وأنا أتابع تحيّة حبّ إلى جان شمعون، أسأل معه: «هل انتهت الحرب؟». لا، لم تنتهِ، لا بل قد بدأت الآن. لا ترتعبوا ولا تخافوا… ولكن هناك ما هو أصعب من الحرب المعلنة، تلك التي تظهّر لنا وجوهاً مقيتة بِاسم الفن، من أديب يزحف لمقابلة مع تلفزيون العدوّ، إلى سينمائي يقيم أشهراً في الأراضي المحتلة ويتعامل سينمائياً مع العدوّ، ويتمنّى في لقاء مع طلاب أن تُزال الحواجز بيننا على افتراض أنه يمثّلنا! وبين العدو، وآخر يأتي إلى المسرح بمواقفه الملتبسة المتناقضة لا يعرف أين يقع الشمال وأين الجنوب في رأسه، تعوّمه وسائل إعلام العدوّ، وقبلها سياسيوه بأسلوب محاربته لنتلقّفه نحن حاضنين عطوفين متأثّرين.

الحرب قد بدأت للتوّ، ولكن مشهد مي المصري وهي تُمسك مفتاحاً قدّمته إليها تكريماً المخرجة نضال الأشقر في تحية الحبّ إلى جان شمعون، أمسكت مي بالمفتاح الذي يشبه مفاتيح الأبواب العتيقة في جنوبنا المحتلّ، في فلسطين، وقالت: هل تعلمون كم يعني لي هذا المفتاح؟

نعم نعلم… هو مفتاح الأبواب التي سنفتحها عودةً غير خاضعة، وليس فيها زحف الخبثاء، إنما قوة المنتصرين للحقّ وللإنسان. المفتاح هو ذاكرة كما أفلام شمعون ومي المصري التي ستتابع المسيرة هي وابنتاهما كما أسرّت بصدق وشفافية ومحبّة.

وإلى هؤلاء الذين ينبطحون ويبيعون، نقول: نحن نعرف أوان الحجّ وميعاده، والشمس تعرف، ووعينا الذي لم تُمحَ منه ذاكرتنا تعرف. انبطحوا كيفما شئتم عمالةً وبيعاً لكرامتكم وعزّتكم، متسلّحين بتعابير الفنّ العالمي، والمفتاح في يد مي المصري، هذا المفتاح الحديديّ العتيق يعرف!

بكل الحبّ لمن زرع حبّاً وأملاً ينبعث من أقصى لحظات الوجع، أطفئوا الإضاءة، سنعرض الآن فيلماً لجان شمعون.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى