حمّى الانفصال تجتاح العالم
أسامة العرب
تبلغ مساحة كتالونيا 32.1 ألف كيلومتر مربع، وتضمّ أربع مقاطعات هي برشلونة وجرندة ولاردة وطراغونة، ويبلغ عدد سكانها 7.5 مليون نسمة. وقد أجرى إقليم كتالونيا مطلع الشهر الحالي استفتاء للانفصال عن إسبانيا، وأعلنت حكومة الإقليم أنّ نسبة من صوّتوا لصالحه بلغت 90 في المئة، وأنّ الإقليم بأكمله يؤيّد الانفصال. ويقول الكتالونيون إنّ كتالونيا الغنية تمّ استنزافها من قبل الدولة الإسبانية، مشجّعين منطقة الباسك في إسبانيا على الانفصال أيضاً، وزاعمين أنّ الحكومة المركزية في مدريد تقوم بجمع الضرائب من مختلف المناطق الإسبانية وتوزّعها على المناطق كافة، باستثناء إقليم الباسك.
وقد نقلت وكالة «رويترز» عن رئيس إقليم كتالونيا، كارلس بيغديمونت، قوله إنّ كتالونيا ستعلن انفصالها عن إسبانيا خلال أيام، وهي خطوة من شأنها أن تتحدّى مدريد التي ترفض نتيجة الاستفتاء. أضاف بيغديمونت أنّ الكاتالونيين كسبوا الحق بأن تكون لهم دولة مستقلة بعد نزول الملايين منهم للمشاركة باستفتاء على استقلالهم، متهماً الملك الإسباني فيليبي السادس بأنه تجاهل عمداً حقوق ملايين الكتالونيين الذين يتطلعون إلى الاستقلال. ورداً على سؤال عمّا سيفعله في حال قامت الحكومة الإسبانية بالتدخل والسيطرة على إقليم كتالونيا، أجاب بيغديمونت أنه «سيكون خطأ جسيماً سيؤدّي إلى تصعيد الأمور».
وبالتالي، فما هي انعكاسات هذا الاستفتاء على مستقبل إسبانيا وأوروبا بوجه عام، وذلك على خلفية إمكانية مطالبة أقاليم عدة في بلدان أوروبية أخرى بالاستقلال، منها على سبيل المثال اسكتلندا في المملكة المتحدة وإقليم الباسك في إسبانيا وجزيرة كورسيكا في فرنسا، ومنطقة بافاريا في ألمانيا، كما أنّ إقليم فلاندرن – المتحدث بالفلامنية الهولندية البلجيكية والواقع شمال بليجكا – ما تزال تُختمر فيه تطلّعات الانفصال عن منطقة والونيا الناطقة بالفرنسية والواقعة جنوباً. وما تزال النزعات الانفصالية في إيطاليا تغوي أطرافاً في الشمال الثري لانفصال ما يسمّى ببادانيا والمؤلفة من مناطق لومباردي وأوستا وبيدمونت وليغوريا وفينيتو وإميليا رومانيا حتى أنّ سكان منطقة جنوب تيرول في إيطاليا أيضاً بدأوا يفكرون أيضاً في الاستقلال.
لقد تأسّست العقيدة اليمينية الأوروبية على الدولة القومية، وهي جزء من الفلسفة الكلاسيكية التي نبعت مع ثورة الأنوار وساهمت في تقوية دعائم الدولة الحديثة وفق المنظومة الغربية. لكن المتتبّع لسير الأمور على الصعيد الدولي، ابتداءً من الأزمة المالية العالمية التي هزّت أركان أوروبا، وصولاً إلى اتخاذ بريطانيا قرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وانتهاءً بصعود اليمين المتطرف وأزمة اللاجئين والإرهاب ومحاولات اسكتلندا وكتالونيا الانفصالية عن بريطانيا وإسبانيا، يلاحظ بأنّ هنالك مشروعاً جديداً يجري إعداده لأوروبا بهدف تقسيمها على غرار المشروع الذي أعدّ لتقسيم الشرق الأوسط، وذلك بهدف تفتيت دولها وإعادة تركيبها من جديد. ولا شك في أنّ انهيار الاتحاد الأوروبي بات أقرب من أيّ وقت مضى، وهذا الانهيار المقبل كانهيار الاتحاد السوفياتي سوف يؤسّس لمرحلة جديدة من الصراعات، ولتحالفات دولية جديدة، كما سوف يكرّس شيئاً فشيئاً نظرية «صدام الحضارات» ويؤدّي إلى صعود «اليمين الشعبوي واليمين المتطرّف» والعودة إلى خطاب «الهويات القاتلة» أكثر فأكثر، خاصة بعد زوال النجاحات الاقتصادية التي حققتها قوى اليسار الوسط واليمين الوسط في أوروبا.
إذن، هناك عمل ممنهج لدعم قوى اليمين، بسبب مقاربتها لمفهوم الوطنية من منظور عرقي يميل إلى إقامة فكرة المواطنة على أساس القرابة الدموية، وعلى صياغة العدوانية والنزعة الإقصائية تجاه الآخر والاعتماد على فكرة الانتقاء التاريخي.
إنّ ما يهمّنا من هذه الظاهرة الجديدة، هو أنها سوف لن تنحصر فقط في الفضاء الأوروبي، وإنما سوف تنعكس سلباً على السياسات الخارجية لدول أوروبا، وعلى تنامي عامل الصدام الديني والثقافي بين الحضارات، لا سيما بين الغرب والشرق. ففي مؤلّفه «الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات» يرى تزيفتان تودوروف أنّ وضع طبقات للحضارات أتاحت للغربي استعمال السلطة لإذلال الآخر الذي صُنّف في درجة ومرتبة وطبقة «بربري»، كما جاء في تقرير منظمة العفو الدولية أنّ تأجيج الخوف والانقسام في الآونة الأخيرة أصبح عنصراً خطيراً في الشؤون الدولية، فسياسات شيطنة الآخر السائدة في الوقت الراهن تروّج بلا حياء لفكرة مفادها أنّ هناك بشراً أدنى إنسانياً من غيرهم. وهو الأمر الذي ينزع الصفة الإنسانية عن جماعات بكاملها من البشر، وأول المستهدفين بهذه السياسات بحسب التقرير هم المنتمون إلى الدول الشرق أوسطية. وأشار التقرير تحديداً إلى المرسوم الذي أصدره ترامب وحظر مؤقتاً الهجرة والسفر من سبعة بلدان شرق أوسطية إلى الولايات المتحدة، قبل أن يعلّقه القضاء الأميركي، وإلى الاتفاق غير القانوني الذي أبرم بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة والذي يسمح بإعادة طالبي اللجوء إلى تركيا. وشدّد التقرير على أنّ خطاب الكراهية ونبذ الآخر له تأثير مباشر على الحقوق والحريات، ذاكراً بهذا الصدد أنّ بعض الحكومات الغربية برّرت ممارسات التعذيب وإجراءات المراقبة الواسعة، ومدّدت الصلاحيات الواسعة الممنوحة للشرطة. كما قال مدير منظمة العفو لأوروبا جون دالويسن إنّ خطاب استهداف الآخر والخطاب الذي يجرّد الناس من إنسانيتهم، بات منتشراً بكثرة في أوروبا، مذكراً بوصف رئيس الوزراء المجري للشرق أوسطيين بالرّعاع وبأنهم يشكلون خطراً على الأمن والهوية الوطنية، ويسرقون الوظائف ويستغلون نظام الضمان الاجتماعي. كما قالت رئيسة منظمة العفو الدولية في فرنسا كاميل بلان إنّ تدابير الإقامة الجبرية أدّت إلى خسارة معظم الشرق أوسطيين وظائفهم أو تهميشهم.
من ناحية أخرى، هل ستؤثر النزعات الانفصالية في أوروبا على النزعات الانفصالية في الشرق الأوسط وعلى مناطق أخرى، حيث يقول الرئيس نبيه بري: «إنّ هنالك مَن يحاول رسم حدود الدم في إطار المشروع التقسيمي والتفتيتي لدول المنطقة»، ولعلّ أكثر ما استحوذ اهتمام الرئيس بري القضية المتعلقة باستفتاء كردستان في العراق والرامية للاستفادة من الأجواء الانفصالية الدولية، حيث كشف مايكل يونغ من مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أسباب التوقيت الحقيقية في قضية كردستان، إذ قال: إنّ سبب ضغط البرزاني من أجل إجراء الاستفتاء والمفاوضات أنه يعتقد أنّ الوقت الحالي هو الأكثر ملاءمة قبل نفاد الفرص المتاحة. فمنذ بضعة أيام، وفي ذكرى استقلال الصين بالتحديد خرجت تظاهرات في هونغ كونغ الصينية، تطالب بالاستقلال عن الصين، كما حمل المتظاهرون لافتات تقول «هونغ كونغ اليوم، تايوان غداً». وبالتالي، ربما يكون الهدف الرئيسي من دعم النزعات الانفصالية في أوروبا والشرق الأوسط استهداف سياسة الصين الواحدة، لا سيما أنّ الصين تتخوّف أيضاً من الرئيسة التايوانية أن تساي، التي تقود الحزب الديمقراطي التقدمي الموالي للانفصال، والتي تريد إعلان استقلال الجزيرة رسمياً عن الصين.
وأخيراً، حمّى الانفصال تجتاح العالم وتُشعرك بأنّ تداعياتها سوف لن تنتهي في الوقت القريب. وفي ما يخصّ منطقة الشرق الأوسط، فإنّ «إسرائيل» تبقى الداعم العلني الوحيد لانفصال كردستان، حيث قال رئيس حكومة الاحتلال «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، «إنّ إسرائيل تدعم الجهود المشروعة التي يبذلها الشعب الكردي من أجل الحصول على دولة خاصة به». فيما تَصدر تصريحات ومواقف غير رسمية عن مسؤولين عرب تدعم انفصال كردستان عن العراق، ولكن ملامح فشل هذا المشروع بدأت تظهر إلى العلن، خصوصاً بعدما فشلت المخططات الصهيو – تكفيرية كلّها على أعتاب أقدام المقاومين.
محامٍ، نائب رئيس الصندوق الوطني للمهجَّرين سابقاً