دولة لبنان الكبير صناعة فرنسيّة صِرفة

د. وفيق إبراهيم

الدعوة إلى احترام فكرة تأسيس «لبنان الكبير» بزعم أنّها ناتجة من جهود رجال دين أجلاء، تثير الدهشة والغموض والرثاء في آنٍ معاً، ومع كامل الاحترام لرجال الدين الذين وردت أسماؤهم كمؤسسين للبنان الكبير، والتزاماً بأهميّاتهم، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الانتداب الفرنسي قسّم سورية حينها إلى سبع دول متنافسة، ومنها على التوالي: دولة دمشق وأريافها، دولة حلب وأريافها، دولة جبال العلويين مع الساحل ودولة جبل الدروز…

وأسّس بالتعاون مع مثيله البريطاني دولة الأردن السوريّة أيضاً، ووهبها للأسرة الهاشميّة. كما قسّم فلسطين السوريّة أيضاً إلى دولتين يهودية، وأخرى عربية. فهل يمكن أن يأتي تأسيس دولة لبنان الكبير في الوقت نفسه خارج السياق الاستعماري المعتمد حينه، أم أنّ هذا أيضاً من إبداعات الفرنسيين الذين اقتطعوه من سورية كقاعدة دائمة لهم؟

وهنا لا بأس من العودة إلى التاريخ لتوضيح العلاقة العضوية والبنيويّة بين الولايات العثمانية في دمشق وعكّا وصفد، وبين المناطق اللبنانية التي كانت تتسمّى بأسماء أخرى… وللمزيد من تدمير سورية وتحويلها كياناً ضعيفاً، جرى سلخ لواء الإسكندرون منها في العام 1939 وضمّه إلى تركيا، لإرضاء أتاتورك وجعله يتنازل لليونان عن مناطق أخرى.

وبالتزامن، نفّذ الاستعمار البريطاني حصّته من تجزئة المنطقة مقتطعاً منطقة الكويت من ولاية البصرة العراقية، مؤسّساً عشرات الإمارات الصغيرة التي اندمجت في ما بينها في إطار دولة الإمارات في مراحل لاحقة، وبانياً دولة قطر ومؤكّداً على قسمة اليمن دولتين داعماً آل سعود باقتطاع مساحات وصلت مساحتها إلى مليونَيْ كيلو متر مربع تقريباً، بعد تأكّده من وجود النفط فيها باحتياطات هائلة، لذلك دعموا آل سعود في القضاء على الهاشميين في الحجاز ومكّة، وآل الرشيد في حائل المتحدّرين من قبيلة شمّر التي نزحت بعد خسارتها واستوطنت العراق وسورية والأردن، إلى جانب عشرات الولاة المحلّيين الذين ذُبحوا كالنعاج في مجمل أنحاء المملكة بإشراف بريطاني دقيق.

أَلَم يقل رئيس وزراء بريطانيا السابق ونستون تشرشل، بعد انتصار جيشه في الحرب العالمية الثانية على جيوش رومل الألماني: «لقد انتصرنا على بحر من الزيت من ليبيا ومصر، وحتى جزيرة العرب»؟!

وهذا يؤكّد أنّ اختراع الدول في تلك المرحلة، إنّما لبّى حاجات الاستعمارََيْن البريطاني والفرنسي لتفتيت سورية، المنطقة الأكثر نضجاً في المشرق العربي، وذلك للإمساك بكامل العالم العربي والسيطرة على النفط… وهذا ما حصل.

ولبنان الكبير هو واحد من هذه الدول المخترَعة التي أريد منها إيجاد قاعدة دائمة للمستعمرين تطلّ على سورية، وبوسعها إثارة حروب طائفية جديدة تؤدّي إلى مزيد من تجزئتها. لكنّ حسابات حقل الفرنسيين لم تتلاءم مع المقاومات السورية وأبطالها من سلطان باشا الأطرش الذي هزم الفرنسيين في جبل العرب ملتحقاً بدمشق، وكذلك فعل الشيخ صالح العلي الذي حارب الفرنسيين في جبال العلويين مؤسّساً لشروط العودة إلى سورية.

أمّا دمشق وحلب، فلم تستقم دولتاهما وعادتا متّحدتين إلى ربوع وطن واحد، واسألوا المقاوم إبراهيم هنانو كيف عادت المدينتان متّحدتين؟

لذلك، بقيت أقسام من سورية لم تسنح لها فرصة العودة، وأهمّها فلسطين التي استباحها اليهود مشتتين أهلها إلى أقصى الأرض، ولواء الإسكندرون الذي يقبع تحت الاحتلال التركي حتى إشعار آخر.

كان لا بدّ من هذه المطالعة السريعة لإفهام الجميع أنّ دولة لبنان الكبير هي من صناعة الانتداب الفرنسي تلبية لحاجاته الأساسية ومصالحه، وبما أنّ كلّ استعمار وانتداب بحاجة إلى تبريرات داخلية، كما حدث في أصقاع الأرض كلّها، فقد أمّنوا بنية سياسية ودينية لبنانية متعدّدة الطوائف ومرتبطة بهم، زاعمين أنّها تريد الاستقلال على هذا النحو الجغرافي، وبما أنّ السياسيين الموارنة كانوا في ذلك الوقت الأكثر علاقة بالفرنسيين، بذريعة أنّ فرنسا هي حامية المسيحيين في الشرق ولهم معها علاقات تاريخية، فقد توهّم هؤلاء أنّ هذا الكيان الهجين إنّما بُني من أجلهم ولهم فيه حق الغلبة والاستئثار، فمارسوا سياسات استحواذيّة أدّت إلى حروب داخلية عدّة أعادت تقويم الأوضاع نسبياً، لكن خارج السياق الوطني.

واللافت أنّ هذه الدولة كانت تضمّ ما يُسمّى «القرى السبع» التي عادت «إسرائيل» بمعونة فرنسا إلى الاستيلاء عليها مع خط حدودي كبير سيطرت عليه العصابات الصهيوينة، بغضّ طرف من أبطال «لبنان الكبير».

وتحوّل لبنان الكبير دولة لبنان في 1943، بعد انسحاب فرنسا منه، مع خسارته مناطق حدودية جديدة استتبعتها «إسرائيل». لذلك، لا بأس من القول لبعض المتحذلقين، إنّ فكرة لبنان الكبير جرى «تلبيسها» لجهات دينية، كي تبقى العلاقات الداخلية اللبنانية على كفّ العفريت الطائفي، الاستعماري الذي بوسعه إيقاد حرب أهلية ساعة يشاء، ومتى أراد.

أمّا الفكرة الثانية، فهي أنّ الكيانات السياسية العربية كلّها، إنّما هي كلبنان الكبير ودولة لبنان، لا تشكّل حقائق سياسية تاريخية، وهذا يعني عدم وجود تيارات تريد النَّيل من دولة لبنان لعدم وجود كيانات أساسية تستطيع استيعابها. ولأنّ هذه الكيانات متساوية في لاشرعيّتها التاريخية، فهي مقبولة لأنّ الخطر الأكبر على المنطقة اليوم هو الخطر الإرهابي الذي يؤدّي حالياً دور الاستعمار القديم الذي كان لا يسعى إلا لتقسيم المنطقة كانتونات متناقضة، والخطر الآخر هو «إسرائيل»… أمّا الكابوس الأكبر فهي السياسة الأميركية المتحالفة مع الإرهاب و»إسرائيل» للمزيد من تجزئة المنطقة.

فهل يستطيع أحد الكشف عن دولة لـ «لبنان الكبير» أو الصغير قبل الاستعمار الفرنسي؟ وبشكلٍ أدقّ قبل اختراق النفوذ الغربي للدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر؟

ما يؤكّد أنّ هذه الفكرة هي جزء من سياسات استعمارية، لا نعتقد أنّ رجال دين أجلاء متورّطون فيها! وتشكّل قسماً من المشاريع الفرنسية البريطانية التي جزّأت المنطقة في سايكس – بيكو 1917 على النحو الذي هي عليه الآن.

ويبدو أنّ المطلوب اليوم هو الدفاع فقط عن لبنان الحالي من الأخطار الخارجية التي تُحدق به من كلّ حدب وصوب، أمّا التشدّق بضرورة احترام فكرة لبنان الكبير، فليست إلا من وسائل إثارة فتنة لمصلحة تسلّل الإرهاب والفكر الطائفي إلى دولة لبنان لعرقلة دور المقاومة. فهناك مَن يعتقد من أنصار لبنان الكبير أنّ المقاومة مشروع إقليمي للاستيلاء على السلطة في لبنان، ولا يمكن وقفه إلا بواسطة الأساليب الطائفية.

ويجهل هؤلاء أنّ الحرب الإقليمية التي تخوضها المقاومة أكبر بكثير من هواجسهم الطائفية والمذهبيّة، لأنّ هدف المقاومة الوحيد هو المحافظة على الدولة الوطنية، الضامن الوحيد المتوفّر حالياً لمنع «الإرهاب الأممي» من تدمير العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة على مستوى المنطقة والعالم، وعلى رأسه دولة لبنان الكبير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى