الجاهلية الجديدة لأمَّةٍ جَهِلَتْ جهْلاً وجَهالة
د. رائد المصري
لا نستطيع إلاَّ أن نبكي ونندب حظاً على الواقع العربي الأليم الذي صار ويسير عليه العرب اليوم، في إعادة ترجمة وتكرار النَّسْخِ لأحوالهم واقعهم منذ ألفي عام، أو ترجمة لمعاني الجاهلية والجهل، وفقاً لكلِّ ما تمَّ تناقله من شروح لمفهوم هذا العصر الذي حَكَم ووُجِد بين فترات زمنية تفصل بين ظهور الأنبياء لتنظيم شؤون البشر وهدْيِها على طريق الصِّراط القويم، أو تبعاً لتصرفات فردية تحكمها الطبائع العشائرية بقانون السَّلب والغزو والغنيمة ووأْدِ البنات، وغيرها الكثير من العادات الجاهلية التي نزَعَها الإسلام وحرَّمها، وأبقى على نقيضها كعادات سليمة تُريح المجتمع وتبنيه مع الإنسان الآخر في تطوّر بشري مستمر وطويل…
فلنكن بعيدين عن كلِّ تلك الشروح الدينية ولنأخذ الوصف التاريخي الذي كان مطبوعاً على أنماط السكان وعاداتهم وتقاليد عيشهم ونظم الحكم لديهم، ولنقارنها بما يختصُّ بالعالم العربي لناحية أنْسَنته وأنْسَنة العلاقات بين الشعوب وبين الدول والحكام، من دون الدخول في متاهات الاصطفافات السياسية والعرقية والدينية والقومية وما شاكل، حيث إننا سنخرج بانطباع مخيف يجعل الشعوب ووعيها الجَمعي يؤمن بأنَّ ما يمرُّ به من ويلات ودمار وتواطؤ وحروب وخيانات وسرقات وفساد وتخريب مجتمعي وغيره، لهو أمرٌ طبيعي وعادي نسبة لما عايشوه من خلال موروثهم التاريخي في عصور الجاهلية والتعوُّد الدائم على أنماط الحكم القبلي والعشائري والفردية في التعامل. ومن أمثلة ذلك:
1 ـ حالات الحروب المستمرّة في المنطقة العربية بسبب أو بدون أسباب، حتى لو كانت لهذه الحروب لها مبرراتها كلّها وفقاً للفكر الأيديولوجي المتقدم، فهذا لا يُعفينا من احتساب الأكلاف التي نصرفها في سبيلها، فنصل نتيجة مؤداها أنَّ الحفاظ على إنسانية البشر وحيواتهم وأرواحهم هو الهدف النبيل في سبيل أيِّ نضال وكفاح من أجل الرقي الإنساني وكفى…
2 ـ حالات الاصطفافات السياسية والأحلاف العسكرية وبناء عليه يتمُّ صرف واستثمار المليارات الدولارية من أجل الاستحواذ على الترسانات التسليحية والدفاعات الجوية، بما يقود الى تساؤلات عن حجم الأخطار التي تتهدَّد الدول والإقليم، وعما إذا كانت بمستوى هذه المشتريات وصرف كلّ هذه النفقات لشراء السلاح…
فصفقة شراء السلاح الأميركي التي حجزتها السعودية في زيارة الرئيس ترامب الى الرياض وأحجام الاستثمارات المالية التي فاقت الـ 400 مليار دولار، قابلتها استثمارات بمليارات الدولارات مع روسيا الاتحادية وشراء أنظمة صواريخ «أس 400» والقيام بعقد صفقات مالية ونفطية وتصنيعية، يتبعها الإعلان الأميركي مجدداً وكشفه عن صفقة لمنظومة صواريخ ثاد جديدة بكلفة 15 مليار دولار للمملكة… فما هي حقيقة حجم هذه الأخطار التي تتهدَّد السعودية أو غيرها من البلدان في الإقليم؟ دعونا نناقش على الأقلّ ليُبنى على الشيء مقتضاه… ممنوع من الصرف لأنَّك تعيش وتحيا في زمن العصر الجاهلي وكفى تفكيراً وتكفيراً بحال الأمة التي تقرأ…
3 ـ حالة القهر التي عاشتها مجموعاته البشرية في منطقة الشرق الأوسط من العرب والمسلمين، ناهيك عن الاعتداءات الصهيونية على الأرض الفلسطينية وعلى شعب فلسطين، إذا ما نظرنا لحركات التهجير الممنهجة التي قادتها التنظيمات الإرهابية التكفيرية في كلٍّ من لبنان وسورية والعراق واليمن وليبيا والدعوة الى الجهاد والتهجير والسَّبي والاغتصاب والقتل والدمار… نخلص للمعادلة التي تقول إنها تمثِّل كلَّ حالات الجاهلية التي عرفها العرب وعايشوها منذ تاريخهم القديم الأسود الى اليوم بأبشع صوره في دمار الإنسانية وتشويه معالمها التي يقولون عنها إنها حضارية، وهي لم تقم إلاَّ على أنقاض الجماجم ومعاناة ومأساة الإنسانية المتراكمة منذ أزمنة العصور الأولى وحقباتها…
4 ـ في بلدنا الصغير لبنان تخيفك أحجام الاصطفافات الطبقية والطائفية والمذهبية في وطن بات يُعتبر من دول التحضُّر والتقدّم نسبة الى جواره وغيره في الإقليم، ألم يسأل أحد في وطن الفينيق عندما يذهب لممارسة حقِّه الانتخابي كيف أنهم ينزعون عنه صفة المواطنة في حقِّ التصويت، إذا أخطأ وأراد تنفيذ واجبه الوطني في صندوقة انتخاب غير صندوقته المذهبية ليتهافت عليه مَن هُم أعرفْ ويدلُّوه إلى مكان مزرعته الطائفية والمذهبية وصندوقه الطبقي العنصري كي لا يتوه عن قطيع الأغنام الذي خُلقَ وحُكم به وعليه…؟ إنها المهانة الكبرى والانحدار والحطُّ من الكرامة الإنسانية وهي تفوق معايير النضال والكفاح كلَّها…
حتى على مستوى السرقات الموصوفة العلنية، وليس هناك من معلومات خافية على أحد، وبحسب تقديراتٍ لسياسيين ونواب برلمانيين عن أحجام أموال الهدر في وزارات ومؤسسات لبنانية تُرصد سنوياً بمئات ملايين ومليارات الليرات اللبنانية، وهي غير موجودة أصلاً… فما هي هذه الجرأة يا سادة في السرقات الموصوفة وفي الهدر للمال العام كثقافة تاريخية اكتسبها هؤلاء..؟
لم نرَ إلاَّ الممارسات الشاذة والحاقدة والقاتلة في عصرنا اللبناني والعربي، وعلى المستويات كلِّها بحقِّ الإنسانية جمعاء، معتبرين أننا تخلَّصنا من عصر الجاهلية الذي طبع به مجتمعاتنا في التاريخ القديم، إلاَّ أنَّ هذا العصر يُعيد إنتاج نفسه ويُعيده مروِّجوه وحُماته والأوصياء عليه بوقاحة أشدّ وبقلَّة ضمير غير مشهودة وبفقدانٍ للإنسانية وكأننا في جاهلية حقيقية ضدَّ الحلم… وليست فقط ضدَّ العلم…
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية