قاطرة النمو… من دون عجلات
د. لمياء عاصي
برهنت تجارب النهوض الاقتصادي في الكثير من الدول، أن الصناعة هي قاطرة النمو الاقتصادي والرافعة الأساسية للتنمية الشاملة، لدورها الواضح في رفع حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلد، من خلال زيادة الإنتاج السلعي وارتقاء الخبرات والمعرفة التراكمية ورفع القدرة الشرائية الطلب الكلي وتأمين فرص العمل، وحسب إحصائيات عالمية تؤمن الصناعة واحدة من ستة فرص عمل، ويبلغ عدد العاملين بها على مستوى العالم 470 مليون شخص.
مرت التنمية الصناعية بعدة مراحل، ففي البداية، كانت لإحلال المنتجات المحلية محل الواردات وتقليص الاستيراد، تم انتقلت لتعزيز الصادرات واجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر، وإقامة المصانع لاستخدام الموارد الطبيعية والميزات التنافسية للبلد وصولاً إلى المنتجات ذات التقنيات العالية، يتفق خبراء التنمية الاقتصادية بأنها تستند إلى الإنتاج الحقيقي والمتمثل في قطاعي الزراعة والصناعة.
تاريخياً كانت الصناعة السورية مزدهرة والصناع السوريون يتمتعون بالمهارة العالية، وبعد الاستقلال أي في الخمسينات من القرن الماضي، تطورت الصناعات النسيجية في سورية، وفي السبعينات أنشأت الحكومة السورية المعامل المملوكة للدولة على نطاق واسع، وهو ما سمي بالقطاع العام الصناعي كطريقة لتعزيز دور الدولة في الحياة الاقتصادية.
اعتباراً من عام 2005، ومع تغيير النهج الاقتصادي باتجاه اقتصاد السوق الاجتماعي وتشجيع الاستثمار الخاص في الصناعة، توقف التوسع في القطاع العام ومنحه أي مزايا تفضيلية، واعتبرت المعامل الخاصة جزءاً من الصناعة الوطنية، الذي سيكون مصدراً لفرص العمل والصادرات، وفي هذا السياق يسجل للدولة السورية إقامة المدن الصناعية المختلفة مثل الشيخ نجار في حلب، منطقة حسية الصناعية في ريف حمص، ومناطق أخرى، كخطوة متميزة في تطوير المنشآت الصناعية وتوسيع القاعدة الإنتاجية.
من المعروف، أن الواقع الصعب للصناعة السورية، بشقيها العام والخاص، لم يبدأ مع الأزمة فقط، بل سبقها بسنوات، وعلى رغم الازدياد الكبير في عدد وحجم المنشآت الصناعية، فقد استمر الوضع التنافسي الصعب للمنتج الوطني لعدد من الأسباب، تتركز في الإدارة والتمويل، وضعف بيئة الأعمال بشكل عام، إضافة إلى:
فقر شديد في المكون التكنولوجي في المنتجات الوطنية، وضعف القيم المضافة، وغياب عنصر الابتكار والتصميم الجديد وعدم تبني المعايير والمواصفات العالمية لضمان الجودة، ضعف الحوافز لتشجيع الصادرات والانخراط في النظام الاقتصادي العالمي.
ضعف الإنتاجية لقدم الآلات المستخدمة وإنتاجية العامل السوري أقل بكثير من نظيره الآسيوي على سبيل المثال.
التعرض للمنافسة الدولية نتيجة للانفتاح والتحرير التجاري وبعض الاتفاقيات التجارية التي كانت مؤذية جداً للمنتجات الصناعية الوطنية، خصوصاً أمام المنتجات الصينية والتركية.
أما بالنسبة للخسائر التي خلفتها الحرب في سورية والتي بدأت مع عام 2011، فقد اختلفت الأرقام التقديرية لهذه الخسائر، فيما اتفق الجميع على فداحتها، حيث خرجت مدن صناعية بالكامل من الإنتاج مثل الشيخ نجار في حلب، وأصبحت الكثير من طرق النقل غير آمنة بما يكفي للوصول إلى المعامل أو نقل المواد الأولية والبضائع منها وإليها، وهنا يبرز السؤال التقليدي، عن دور الدولة والإجراءات المتخذة من قبلها، لمساعدة الصناعيين على ترميم منشآتهم وإعادتها للإنتاج.
الواضح أن ثمة إجراءات اتخذت هنا وهناك، ولكنها ليست كافية أو متكاملة لتحقيق هدفها بالعودة للعمل، ويمكن توضيح ذلك من خلال الإشارة إلى بعض مطالب الصناعيين التي يمكن تلخيصها كما يلي:
أولاً، المساعدة في توفير الأمان للمنشآت الصناعية وطرق الوصول إليها، بما فيها إمكانية نقلها للأماكن الآمنة ولو بصورة موقتة وتأمين الأماكن اللازمة لمواصلة الإنتاج.
ثانياً: التمويل وتوفير السيولة، وذلك من المصارف والمؤسسات المالية.
ثالثاً: تخفيض أو إلغاء الرسوم الجمركية على المواد الأولية اللازمة للصناعة، ورفعها على السلع المستوردة والتي يتوافر بدائل وطنية لها.
رابعاً: تأمين مشتقات النفط من الفيول والمازوت والكهرباء وغيرها، بأسعار أقل من السوق العالمية، أي الاستفادة من الدعم الحكومي لهذه المشتقات، لضمان استمرار عجلة الإنتاج.
خامساً: حل المشاكل الناجمة عن التسعير الإداري لبعض السلع، حيث أن السعر الذي تفرضه الدولة، لا يغطي تكاليف المنتج مما يؤدي إلى توقف إنتاج هذه السلع، وخير مثال على ذلك، هو الصناعات الدوائية، فما هو موجود في الأسواق لا يزيد على 40 في المئة من حاجة المواطنين، بسبب مشاكل التسعير للأدوية.
إضافة لما سبق، فإنه لا بد من اتخاذ مجموعة سياسات وقرارات حاسمة للخروج من الحلقات المفرغة التي تدور بها الصناعة منذ عقود، من دون أي تقدم يذكر، وهنا نقترح نقطتين غاية في الأهمية:
الأولى ـ تشكيل المجلس الوطني للصناعة ومنحه صلاحيات واسعة للقيام بمهامه التي يجب أن تتركز على إعادة عجلة الصناعة للدوران واتخاذ كل ما يلزم من قرارات لتيسير عودة وتعافي قطاع الصناعة، وتجسير الفجوة الحاصلة اليوم بين الصناعيين والحكومة، وأن يكون أعضاؤه من الصناعيين من القطاعين العام والخاص وممثلين عن غرف الصناعة، والحكومة ولا سيما ممثلين عن وزارة الصناعة، والاقتصاد والبيئة، والإدارة المحلية، وغيرها من الجهات ذات العلاقة.
الثانية: اتخاذ إجراءات استثنائية ومدروسة، تجاه اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية، لتخفيف آثارها على الصناعة الوطنية، وإعلان سياسات حمائية لفترة محددة من الزمن، والاتفاقيات التجارية عادة، تسمح بمثل هذه الإجراءات في الظروف الخاصة، وفي نفس الوقت، السير قدماً في توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الجمركي الثلاثي والذي يضم روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان، لأنها سوق مستقطبة للبضائع السورية. أخيراً، إنّ الصناعة السورية التي وصفت بأنها قاطرة النمو، في وقت سابق للأزمة، تعاني اليوم من عدم قدرة عجلاتها على الدوران، بسبب المشاكل العميقة والخطيرة التي تهدّدها بالمزيد من الإنهاك والإنهاء.
وزيرة سابقة في سورية