الإسلام الذي تريده أميركا «داعش» نموذجها المثالي

د. وفيق ابراهيم

أصبح استخدام النص المقدم للزوم الهيمنة السياسية «وصفة أميركية» سحرية تقولب بها مجتمعات الشرق الأوسط على قياس مصالحها الاقتصادية.

وليس من قبيل المصادفة أن تنتمي غالبية القوى الاقتصادية الكبرى إلى الولايات المتحدة الأميركية… لأنها الناتج الطبيعي لتراكم حركة استعمارية متواصلة منذ منتصف القرن التاسع عشر سقط فيها ملايين الأبرياء، واستهلك المخططون الأميركيون عشرات الشعارات، من نشر حضارة وديمقراطية وحداثة وتحديث وتحالفات وحرب على الإرهاب وتحرير السود والسمر. لكن العنوان الذي خلب ألباب الأميركيين هو الإسلام الذي زوّدهم بما لا يحلمون به. أسقط لهم ببراعته الاتحاد السوفياتي والشيوعية عموماً، مدجناً ومدمراً الهند والصين ومصر الناصرية، واليمن والعراق وأفغانستان وباكستان وسورية والصومال ومصر وأوروبا الشرقية. وأسس الأميركيون ببركات «الإسلام على الطريقة الأميركية» نظاماً عالمياً أحادياً 1990 ـ ؟ ما زلنا نعيش لحظات هيمنته وصلفه.

وتحاول واشنطن حالياً منع انهياره.. فتعود مسرعة إلى «وصفة الإسلام» الذي تريد منه اليوم إعادة تأسيس «مشرق عربي جديد» يخضع لمقص مصالحها بما يختزنه من نفط وغاز وقدرات شعوبه على الاستهلاك. وتأمل أن يتمكن هذا المشرق الجديد المذهبي والطائفي والقبلي أن يُقصيَ منافسيها الصينيين والهنود والبرازيليين، مستبعداً أي دور لروسيا وإيران.

فما هي إذاً الوسائل الأميركية لترجمة الأهداف؟

علينا أولاً العودة إلى شريط فيديو من 2006 سربه عميل الـ»سي آي أي» الفار سنودن، يظهر فيه الرئيس السابق للاستخبارات الأميركية جيمس ويليسي وهو يقول: «سنصنع للمسلمين إسلاماً يناسب مصالحنا، من خلال تحريك النعرات المذهبية والعرقية والطائفية والقبلية». وبذلك «نعود إليهم من دون مقاومة». ألا ينطبق هذا الوصف على «داعش». ألا يكشف أن «داعش» «وصفة أميركية» ركبها التخطيط الأميركي بواسطة دول تدور في فلك واشنطن.

«داعش» اليوم يرفض الاحتكام إلى الانتماء القومي والوطني والطبقي الاجتماعي. ولا يعود إلى معدلات الفقر والجهل السائدة. يأبى هذا النوع من التمايزات لمصلحة فروقات جديدة بين مسلم مؤمن «داعشي» وآخر كافر بين مسلم وغير مسلم… فهذا مؤمن بموجب «تفسيرنا للإسلام» وذاك «كافر لأنه يتبع تفسيراً آخر». وهذا كافرٌ لأنه يؤمن بالقوانين الوضعية والدساتير، والآخر مؤمن لأنه يعود إلى الشريعة استناداً إلى القراءة الوهابية… و«من لا يؤمن بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون». وبموجب التفسير الداعشي يصبح عدد الكفّار في العالم نحو خمسة مليارات نسمة من مسلمين وهندوس ومسيحيين ويهود وصابئة وإيزيديين وغير مؤمنين. الناجون فقط هم «داعش» والمتحلقون حولها من السبايا والجواري والإماء والعبيد لتطبيق دقيق لجهاد النكاح.

ماذا يريد «داعش»؟ وكيف يخدم السياسة الأميركية؟

يختبئ المشروع السياسي لـ«داعش» خلف كلمات النص المقدس. فيجمع ما يناسب مشروعه من آيات وأحاديث يعتبرها محكمات وصحيحة. ويؤول في ضوئها الآيات والأحاديث التي لا تخدمه، لذلك لا يظهر إلا ما يناسبه ويسعى إلى تقليد نموذج العصر النبوي والخلافة، وينسى أن النبي والخلفاء الراشدين.. كانوا قبل أكثر من ألف عام. وتعاملوا مع ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية ومادية شديدة الاختلاف عما نحن عليه اليوم. لم يعد الزمن زمن تبشير ديني، وولى عصر الفتوحات الإسلامية. واكتملت النصوص المقدسة لدى كل الأديان التوحيدية وغير التوحيدية. وتشكلت المذاهب الإسلامية بقراءات فيها تطابق واختلاف في آن معاً. وكل الناس تنتظر كلمة الله يوم الحساب للبت في صدق اتجاهاتها. فيأتي «داعش» ليستولي على صلاحيات الله فيكفّر ويقتل ويسبي ويغتصب ويدمر ويشقّ المجتمعات. أليس هذا ما رمى إليه رئيس الاستخبارات السابق جيمس ويلسي أي «الوصفة الأميركية» المطلوبة التي تحوّل المجتمعات الإسلامية إلى عجينة تقولبها المصالح الأميركية وفق مقاساتها.

وليس ضرورياً أن يكون «داعش» على علاقة مباشرة بالأميركيين، يكفي أن يكون صناعة تركية وسعودية وإماراتية وقطرية. وأخيراً نراه يطلب مساعدات من «إسرائيل». حتى نتأكد أن وظيفة «داعش» هي العودة ببلداننا إلى أكثر من ألف عام ونيف.

لذلك يستحضر نماذج ذلك الزمان بالعقل واللباس والمعاملات والذي كان يقسِّم الرجال إلى أحرار وعبيد والنساء إلى حرائر وجواري وسبايا وقيان وإماء.. أما القرن الواحد والعشرون فلا علاقة لنا به، بعلمه وتقدمه وتطوره. يكفي أن تُحفّ الشوارب وتعُفّ عن اللحى وتحفظ الآيات البينات حتى تفحم الناس بعميق معرفتك بالغيب فقط.

والمستفيد هم الأميركيون الذين يستولون على النفط والاستهلاك والغاز ومئات الملايين من البشر الذين لا ينتجون شيئاً. بل يستهلكون فقط.

وليست كل الحركات السلفية متشابهة في الأساليب على رغم تطابقاتها الأيديولوجية، «داعش» يعتبر نفسه حركة دعوية و«قضاء جهادي» في آن معاً، لذلك هو يرشد ويقتل ويبيد… في حين أن هناك حركات سلفية تكتفي بموقع «الدعاة» ولا تتدخل في القضاء الإلهي.. حزب الله مثلاً حركة جهادية ضد أعداء الإسلام حصراً. وتطبّق ما قاله الإمام علي من أنّ الناس صنفان: أخٌ لك في الدين ونظير لك في الخلق. لذلك فإن غير المسلم إنسان له إنسانيته الجديرة بالاحترام والعيش والتعاون.

فيما لا يوفر «داعش» وأشباهه أحداً من السنة الأشعريين والشيعة والمسيحيين وغير المؤمنين.. وعين العرب كوباني خير شاهد فأهلها سنّة وهم يذبحون كالنعاج.

لذلك فإن هذا التنظيم الإجرامي هو الوسيلة الأميركية لضرب الشام والعراق ـ بدليل أن التحالف الجوي لا يصيبه في مقتل بقدر ما يقوّيه. فيبدو كأنه الجناح البري للتحالف الجوي في مسلسل تركي ـ مكسيكي لا يموت فيه المجرم إلا في النصف الأخير من الحلقة «رقم مئتان».

هذا هو إسلام أميركا، يدمر المجتمعات ويؤسس بين مكوناتها احتراباً وقتلاً دائمين كما كانت الأوضاع قبل ألف عام وذلك على متن مشروع البغدادي وآل سعود أو «معارضة مدنية» يتبين أنها همجية أكثر من «داعش».

فهل ينجح المشروع الأميركي الجديد؟ يبدو أنه يحمل في طياته بذور فشله. أولاً هناك تناقضات في الأولويات بين أعضائه والثاني يرتبط بتصاعد الدور الروسي ـ الإيراني الذي يترقب ليكتشف الأهداف أكثر ويتحرك آنفاً.

هذا هو الإسلام الأثير عند الأميركيين، وهو بالطبع لا ينتمي إلى الإسلام كما يريده أهله، اعتدال وتقدم ومشاركة في بحث الإنسانية كلها عن حياة أفضل وحركة لمقاومة الاستعمار الغربي الذي يهاجم بلاد الشام منذ أكثر من ألفي عام ولا يزال.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى