رحلة المؤنّث في المنجز الشعريّ التونسيّ الحديث… خالد رداوي نموذجاً

أحمد الشيخاوي

منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا أتابع عن شغف عبر صفحات «فايسبوك»، ما تجود به قريحة هذا الشاعر الذي نذر حياته لتجربة شذرية تكرّس للدلالة الموازية التي تنتجها القصيدة كمعادل للوهم.

وكأنّ المعنى لديه، لا يستقيم إلّا عبر تجزيء الجملة وتقطيعها، ومن ثمّ بتر الدال، بما يفسح لفعل الحذف باختراقات ذهنية تحيك اللوحة الكلامية تبعا للنَّفَس الوامض، الأمر الذي تتحقّق إثره، بالنهاية، مقولة «الرؤيا تتّسع لضيق العبارة».

إنها كتابة تنطلق من حواشي البياض، لتحاصر الذائقة بمفردات صافية تباشر مناوراتها الخجولة داخل حدود فردوس الأنثوية، على نحو طيفي ماكر، ضاغط بمنظومة ما يضع المتلقّي في خطوط التماس واستنتاجات يغزوها اللّبس والإبهام المقبول، والمحيل على ثراء المخيّلة، والمعجم الخصب المسعف في تعزيز النصّ القصير جدّاً، بتصورات فنّية مخاتلة، ونابضة باستدعاء أصوات الذات كمقابل أو مماثل للجنس في أنا الغيرية، حتى لتلتبس عليك الأمور وأنت تحاول الغوص في ما يتكتّل إزاءك، من ألوان شعرية للمبدع التونسي المتألق خالد رداوي، وتتوه بك جغرافية الخلط بين فهمين في ما يرتبط بالقصد الكلّي، أو المعني الأول، من القول الشعري في نظير هذه التجربة الواشية بالقدرة الذاتية على تفجير الكامن، بطلاقة وسلاسة دون تكلّف: أهو الوطن؟ أم المرأة؟ أم الحالة؟ أم الطيف المتقمّص لحيّز زمني غائر في طفولة بعيدة جداً؟

هكذا تنثالك القصيدة المفسّرة الواصفة، بعدّها دينامية مخلخلة للتصور السّكوني المتفتق عن مرحلة ما بعد تعطّل الذاكرة، أو ذاكرة النسيان في التهامها لسياقات تجيد فبركة الآني، وتقولب الطارئ وفق تيار هذياني يكتب ذات الحاضر ويلوّنها بهواجس الغابر والفاني والسّحيق لكن وفق صياغات جديدة ونافرة.

هو ضرب من إبداع يتلقّف ويطارد خيوط تجلّيات الأنوثة، ليصدمنا بالهديل الأسمى للرّوح كأغوى وأنعش ما تكون الدّغدغة.

لصمت الذات ضلوعه في الإشكال، نعم، هي ممارسة بنكهة الهمس، الواقع علينا وزر امتصاص أسطر أسراره، بما العملية برمّتها، اختزال للذات والحياة في رسالة مقتضبة خاطفة ناظمة لمعنى التشظي كانعكاس وترجمة للخبِئ أو الحمولة الزائدة للوعي وللمعرفة العميقة بالعالم وبنرجسية الذات.

إن كمّ المعايير هذا، من حيث هو تعبير عن انفلات وتمرّد على القيد، إبداعياً، أيضاً، مسكوناً بإغراء العزلة المحبّبة للأنا علياء وشموخ البوح، يعبر بنا إسمنتية اللحظة وتحجّرها، إلى آفاق حلمية مشرعة تماما على رمادية وبكائية المخيال، تجعل تمرّدنا على الواقع ذا معنى ومثالياً في الآن نفسه، يرشق بالهشّ والطرفاوي، وإبّان مرحلة قبلية سابقة لفجر تمرير مغزى النصّ الخاطف، لتأهيلنا إلى طوفان ونارية اجتياز ما بعد فعل الإفصاح والنطق الملمّح إلى ما وكأنّه فينا مفقوداً أو مغيّباً لأسباب ما، مثلما ترومه ذات متّزنة في اضطرابها وعاقلة في جنونها وحاضرة في غيابها وهامسة بل مثرثرة في صمتها، وتتلمّسه من دروب لامتصاص المعانة جرعة جرعة، من خلال كتابة مغايرة تأبى إلاّ أن تنسلخ عن المنمّط لتبرز في هذا الطّراز الذي لا يتأتّى أُكله ولا تنحني قطوفه لعدا متمرّس خبير بلبّ لعبة الكلام.

هكذا، ومتى ما أمعنّا النظر في ما تلهج به هذه النثريات المتماهية وحيّز الحكم الضيّق جداً، والوارف بظلال الدّلالة برغم تقزّم جسد القصيدة، أمكننا الوصول إلى تجاعيد ونتوءات حكاية تهشّ على جوارحنا بشعرية السّرد الوامض، بتخطّيه مفهوم الرؤية المجردّة للعالم والذات، وانحساره في فلك أرحب، يحتفي بالنبرة المسالمة بشأن طقوس التعاطي مع نقاط تجاور فيض من المؤثرات سواء أكانت جوانية أو برّانية، أنوية أو غيرية، وعلى مختلف علائقها بالمكوّنات الآدمية والعناصر الطبيعية.

تهذي بعطرها

الحقول

قصيدتي

وتكتبني بصمت الفراشات.

هل بإمكان النبض أن يحلّق

أعلى من الحلم؟

ربّما

إذا كان الحلم بلا سياج.

عندما

تضيقُ بي قصيدتي

أسيرُ

عكس ظلّها…

أنت أول الزرقة

والبحر

آخرها.

الحبّ

أن يرتدي قلبك كعباً عالياً

ويرقش على الرصيف.

خطواتي

وفيّة للوحل

وحذائي خائن لها…

الصباح

الذي لا يبدأ من عينيك

ليل بغيض.

طائر النورس

أخذ من البحر زرقته

وترك الماء

للمصطافين.

هذه الصحراء

وجهي

فلماذا ضاعت ملامحها؟

من غيوم الشكّ

وجهي

ووجها ماطر

باليقين.

دمها

من دموع الفراشات

تركتني في عيون الغيم

وأغمضت

ألوانها.

ابتسامتها

تسبق دمعتي

بشفاه

باكية.

قبل أن أعرّج بصرختي

على أعشاش الدمع

غصَّتي خَبْطُ أجنحةٍ

ابتلعتُ ريشها.

قصيدتي

أمّ ثكلى

فقدت ذاكرتها

ولم تنس بناتها.

أنا خزّافٌ بلا يدين

أرسم كل الأشكال بذاكرتي

وأكسّرها داخل القصيدة.

أرسمكِ

وسط الزحام

ولا أخشى على طيفك

من قلم الرصاص.

قبل

أن يتخطّفني الطيرُ

كنت

مائدة ترفض النزول من السماء.

أنتِ أوَّلُ وَجْنَةٍ

اعْتَلَتْ ظَهْرَ

خَدّي

لِتُشْرِفَ عَلى بُزوغِ

جَمالَها.

أقلّم أظافر الوقت

بابتسامة

أمّي.

بخُدوش

أظافرها على الماء

مُلِئَتْ كأسي من فيض أناملها

والتصقتْ بشفاهِ الطين.

أنا الجزءُ المفقود من العزلةِ

نزعتُ ملامحي

من مرٱتكِ

وعدتُ إلى وجهي…

وبي وجدٌ

أحثُّ الخُطى نحوهُ

مُتوهجاً

وأعلمُ أَنّهُ

وهم…

الوطن

وحام يتهجى الصمت

كلامه

حمل كاذب…

الغربةُ

أفرغت ما بداخلي

وتركتني

خارج القصيدة.

قالت: هَيْتَ لك

وغُضَّ شَغافُ النَّبضِ

بحيائِه…

لعلّ هذه الثرثرة القاصفة، التي تفيض عن كأسها لتستوفي اشتراطات الدورة التواصلية، ما تنفكّ تشوكنا بنوبات الانكفاء على معطيات الأنثى، مهتمّة بتفاصيل الجسد، وشارحة لمستويات العلاقة بين النوعين.

الممارسة باعتبارها اقتطاع من الذات، بغية اجتراح معاني المناوبة على أوجه العذوبة والبكارة والوهم، للإمتاع والإقناع بمواقف بطولية تقفز فوق مراتب المعالجة إلى ما هو رافل في لبوس القداسة والنوعية والابتكار.

هي كتابة استثنائية، تزاول عصفاً موضعياً، ووخزاً يستهدف المناطق الأكثر حساسية فينا، كأنه وخز بالإبر الصينية.

كتابة فوضوية تقول كلّ شيء تقريباً، من دون أن تأخذ من عذرية الورقة، بل تتركها بتولاً، وعلى حالها، كأشهى ما يتقاذف الذات من سرب لمعان دجنة ومربكة، كأنّما تصبّ مع كلّ حرف ينكتب أو يولد من عدم، رشفة من دم الفؤاد.

كذلك هو الإخلاص للقصيدة، والتفاني في بلورة خواطر ترقى بطوباوية الذات والعالم، لتبلغ بها حدود اللاشكل واللامعنى، وتفرغ كأس الشعر لتعيد ترعها، في تسام وعصيان وتمرّد مطلق على كلّ النّظم اللسانية والمقاسات التعبيرية.

إنّه ماء القصيد يضمّد جراحات الرّوح، يزكم بمعانيه، ويرتّل في خشوع الشعراء، آي خلود الكتابة وعصيانها على التلاشي والنسيان.

إدمان الحرف وزخرفته في مضمار أسطر وامضة مشعّة، تذوّب من جهة، المسافة بين الذات والسّحيق فيها، ومن جهة ثانية تلغي الحدود بين آدميتنا وملامح عالم مختلف ومحب ومسالم ومطاوع وبمواصفات نورانية وأكثر هشاشة كالتي يحلم بها كائن الهامش والهروب الواعي، حين لا يجد سوى فرصة واحدة فقط لمناطحة التحدّي والتجاوز القائم، يمنحها لشاعر يحترم نفسه ويمجّد ذائقة قرّائه، معجم المراودة والمغازلة والمكاشفة والمضاجعة وسحر الشّذرة المتلصّصة على ذاتيتنا وفضول العالم والآخر من شقوق دفينة، تزدري لحظات التردي والمهادنة والذبول والضعف، لتغلف أيامنا ببوح قاهر يمتشقُ شتى معاني الأنوثة، دونما مواربة أو خجل في تسمية الأشياء بعكس مسمّياتها، وباعتماد معادلة مقلوبة مستنهضة لجوانب الجمال والنبل والطّراوة فينا.

شاعر وناقد من المغرب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى