إبراهيم سلامة… «غداً يدخل المدينة» لأنّ المدير «ما قوّصه»!
اعتدال صادق شومان
خلال مروري السريع من أمام مقهى «كوستا» مساءً في طريقي إلى الجريدة في شارع الحمرا، استوقفني تجمهر بعض الأصحاب والزبائن، وجلّهم من الوجوه المعروفة وهم على وجوم! فانتابني توجّس شديد، وفوراً قفزت إلى ذهني ذكرى محاولة التفجير الإرهابية الفاشلة التي تعرّض لها المقهى بداية السنة. «معقول، محاولة أخرى؟»، خاطبتُ نفسي. خصوصاً أنّ المتجمهرين كانوا يحاولون تهدئة خاطر شاب يتوسّطهم، تظهر عليه حالة انفعال شديد. ثمّ راح بي الظن، أنني أمام أحد برامج الكاميرا الخفيّة التي تجد المساس بكرامة الناس والتطاول على خصوصياتهم أمراً مضحكاً، ولعلّها أغضبت أحدهم!
ولكن، سرعان ما تنبّهت أنني أمام كاميرا الواقع، وأمام مشهد حقيقيّ، وأن الشخص الغضوب ليس إلا مدير مقهى «كوستا» فرع الحمرا، وكان يتحدّث بشدّة وبلغة لا تخلو من تهديد، ويطالب الأستاذ ابراهيم سلامة بمغادرة «كوستا» فوراً وإّلا…
نعم، إبراهيم سلامة لا أحدَ غيره، الكاتب والصحافي المعروف بسنواته الثمانين ونيف، والذي واكَبْنا صولاته وجولاته في الصحافتين اللبنانية والعربية في ستينات القرن المنصرم وسبعيناته وثمانيناته، وهو بصدد إصدار كتاب جديد نبشه من زوايا ذاكرته وخباياها المبعثرة.
واليوم، بعدما أتعبته سنواته المتراكمة، والمهنة التي تعرف من الإجحاف أضعاف ما تعرفه من الوفاء، يحطّ رحاله بين منزله في شارع الحمرا ومقاهي الشارع، وعلى الأخص مقهى «كوستا» الذي تعوّد ارتياده منذ كان يحمل اسم «هورس شو» أيّام إدارة مُنح دبغي طيّب الذكر، في زمن المقاهي الثقافية حاضنة المثقفين، والرؤوف بهم… وإن أغلظوا!.
والسبب كما فهمته من المتجمهرين، يبدو أنّ سلامة صبّ جام غضبه وسبابه على أحد الموظّفين العاملين في «كوستا»، ولعلّه «زادها حبتين»، وسط استهجان الزبائن واستنكار تصرّفه ولومهم له. والمعروف عن سلامة، أنه «زبون» يصعب التعاطي معه، وله نزواته العصبية من حين إلى آخر، يُصاب بنوبة غضب تصيب شظاياها الناس والمكان بحدّ ذاته، والأرض والسماء والعالم أجمع.
غير أنّ الموظف وائل عطوي كان حليماً إزاء الزبون «المُتْعِب»، والمُتْعَب من سنواته. وتصرّف بكثير من النبل والتهذيب الفائق ثمّ انسحب مبتعداً، من غير أن يثير أيّ ضجيج وسط احترام الجميع له لا بل تعاطفهم معه، خصوصاً أنه قدّر وخمّن أنّ تصرًف سلامة عارض من النوع الذي يُصاب به كبار السنّ أحياناً من ظواهر العصبية، ونوبات الغضب والتوتر. حتّى أنّ إبراهيم سلامة تحدّث عن عوارضه الخفيفة أحياناً… والقاسية أحياناً أخرى في كتابه «غداً ندخل المدينة» في ظلّ غياب عميق المدى للدولة في رعاية أبناء المهنة، بتأمين ضمان صحي لهم، ومعاش تقاعدي وضمان شيخوخة، وقد وصل بعضهم لأرذل العمر.. لعلّها راهنت على موتهم مبكراً .
عند هذا الحدّ كادت الحادثة أن تمرّ، لولا أن الـ«Big Boss» لم يرضَ أن يفوّت الأمر على «سلامة»، واختار منحى تصعيدياً، واتّخذ موقفاً حادّاً، واستقرّ رأيه أن يعنّف الصحافيّ بسنواته الجليلة. وبالصوت العالي وبلهجة لا تخلو من تهديد وكأنه يحذّر كل مَن في المقهى. ولم تردعه محاولات التهدئة التي قام بها الزبائن، ولا محاولات «تطييب خاطره». لا بل أنّ سلوكيته زادت عنفاً، محجّماً عن «مكارمتهم» وهذا بحدّ ذاته إساءة لهم، رافضاً الاستماع إلى صوت التهدئة. بل ازداد تعنّتاً و«يا أرض اشتدّي وما حدا قدّي»، بدلاً من أن يختار التصرّف الهادئ، فاسحاً المجال أمام روّاد المقهى من أسائذة جامعيين ودكاترة وروّاد عرب وطلاب وشخصيات حزبية وإعلامية ومنهم رئيس المجلس الوطني للإعلام عبد الهادي محفوظ، للتصرّف وإخراج «سلامة بخير»، بعيدا عن الضجيج الذي تعمّده كمدير معتدّ بنفسه.
وإذ أفرط في عدوانيته، حتّى فاقت توقّعات الزبائن الذين تدخّلوا للتهدئة، ثار ـ عند هذا الحدّ ـ سلامة لكرامته، هو الذي كان صامتاً طوال الوقت، مقدّراً فداحة تصرّفه. وهنا، عزم على ردّ التحدّي بالتحدّي، وقال لمدير الفرع: «شو فيك تعمل معي؟ شو بتقوّصني براسي، قوّصني!؟».
طبعاً، لم يجرؤ «صاحبنا» سوى على رفع الصراخ، و«ما قوّص حدا»، وما من سلطة تخوّله التعرّض لسلامة أيّ زبون حتى برفع الصوت، وفي أكثر الحالات شدّة تُجيز له صلاحياته طلب الشرطة، ويا ليته فعلها.
ما الذي كان سيحصل لو أنّ هذا «المدير المسؤول» تصرّف بسلوك مدنيّ راقٍ وببعض نباهة إنسانية، وطلب من سلامة عند مغادرته المقهى ألا يعود إليه ثانية، من دون أن يثير كل هذا «الانفعال» الذي أصابت شظاياه أداءه كمسؤول بالدرجة الأولى، ثمّ ماذا عن رأي «كوستا»؟ وأين مصلحتها في هذا كلّه؟
المهمّ نطمئن الجميع..
أنّ الاشتباك فُضَ في النهاية على خير وسلامة، و«يا كوستا ما دخلك شرّ»!
غير أن شيئاً ما انكسر في دواخلنا، على رصيف الكوستا وأصاب فنجان قهوتنا بشرخ طعمه مرّ..
سامحك الله يا ابراهيم سلامة.