رمزية أم سياسة: البرلمان البريطاني يبحث الاعتراف بفلسطين
لا يعقل لأحد أن ينسى وعد بلفور المشؤوم، ولا يمكن لأحد أن ينسى كيف مهّد المستمعر البريطانيّ الطريق أماما الصهاينة لاحتلال فلسطين. والتاريخ يشهد ولا يكذب. لكن أن تدّعي بريطانيا اليوم العفّة في ما يتعلّق بفلسطين، فهذا ما لا يمكن لعقل أن يقبله.
بريطانيا حائرة اليوم بين موقفين: سياسيّ وآخر رمزيّ. فهل تعترف بالدولة الفلسطينية، أم أنّها ستخضع كما الماضي لسطوة النقود الصهيونية؟ في هذا التقرير مقتطفات من مقالٍ نُشر أمس في صحيفة «هاآرتس» العبرية.
كتب آنشل بابر:
يصوّت البرلمان البريطاني اليوم أمس لمصلحة مشروع قرار يعترف بدولة فلسطينية مستقلة. ويحمل الاقتراح صبغة رمزية فقط، ولا يلزم الحكومة في لندن. ولكنه يثير الخلاف في حزب العمال المعارض إذ إنّ سلسلة من كبار رجالات الحزب يدّعون بأنّه يتعارض والسياسة الخارجية المعلنة لبريطانيا، ويتحرّك عملياً بدوافع سياسية داخلية. وقبل سنتين امتنعت بريطانيا عن التصويت في الأمم المتحدة على الاعتراف بفلسطين. وموقف الدولة الرسمي أنّ الاعتراف يجب ألّا يأتي إلا كجزء من اتفاق سلام شامل.
الاقتراح الذي رفعته مجموعة من أعضاء البرلمان المؤيدين للفلسطينيين، وعلى رأسهم رئيس لوبي «أصدقاء فلسطين» في حزب العمال غراهام موريس، الذي اضطر هذه السنة للاعتذار بعد أن شبّه «إسرائيل» بالنازيين، حظي بتأييد وزير الخارجية في حكومة الظل، بغلاس آلكسندر. أما زعيم الحزب إد ميليباند، فشجب آلكسندر، لكن شخصيات رفيعة في الحزب المؤيدة لـ«إسرائيل»، بمن فيهم وزراء في حكومة الظل، احتجوا على عدم التشاور معهم قبل ذلك، وطلبوا السماح لهم بالتغيّب عن التصويت.
يسعى ميليباند إلى مظهر الانقسام في الحزب وعليه فمن المتوقع أن يتخذ سياسة غير مسبوقة في إطارها اعتبر بعض أعضاء الحزب واجب الحضور في التصويت كـ«رشقة واحدة»، أي استدعاء غير ملزم إلى قاعة البرلمان، بينما من كان فيها سيلزم بمستوى «ثلاث رشقات» للتصويت لمصلحة الاقتراح. والانقسام على مستوى الاستدعاء للتصويت يستهدف منع وضع يعتبر فيه من لا يصوّت من أعضاء حكومة الظل لمصلحة الاقتراح متمرّدين فيتعرضون لاحتمال الاقالة. وبالتالي فإن أعضاء كثيرين من حزب العمال سيتغيبون.
أما طلائع كتل الائتلاف، المحافظون والليبراليون ـ الديمقراطيون، فلم يستدعوا رفاقهم أبداً للبحث مع طليعيّ المحافظين مايكل جوب، أحد السياسيين المؤيّدين جدّاً لـ«إسرائيل» في بريطانيا، وواضع كتاب «مخاطر الاسلام المتطرّف»، شجب أعضاء حزبه على التغيب عن التصويت للتقليل من أهميته الرمزية.
على رغم محاولات جوب، فإنّ مساعي وزارة الخارجية «الإسرائيلية» لتخفيض مستوى الاهتمام كي لا تعطي أهمية للتصويت والتواجد الخفيف نسبياً، فإنّ التصويت يثير اهتماماً شديداً في بريطانيا. فقسم كبير من الاهتمام نشأ في أعقاب محاولات الاقناع التي قام بها أعضاء حزب العمال من مؤيّدي «إسرائيل» ممّن اقترحوا تعديلاً للاقتراح بموجبه لا يأتي الاعتراف بفلسطين إلا «مع النهاية الناجحة للمفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية». أما مؤيّدو الاقتراح فادّعوا أنّ التعديل سيفرغه من محتواه، وبدلاً من ذلك قد يعلنون الموافقة على تعديل يقول إن الاعتراف «مساهمة في الموافقة على المفاوضات على حلّ الدولتين».
وبالتوازي، عقّدت المنظمات اليهودية الوضع حين شرعت في حملة إقناع خاصة بها. ودعت أعضاء البرلمان إلى التصويت ضدّ الاقتراح، فيما دعتهم مجموعات منها إلى الموافقة على تعديل مؤيّدي «إسرائيل».
وأكثر ممّا للاقتراح من آثار عملية على السياسة الخارجية البريطانية، فإنه يحرّك السياسة المحلية ويؤثر فيها. فبعد سبعة أشهر، ستجري في بريطانيا انتخابات عامة، والمستقبل السياسي لعشرات النواب من حزب العمال ممن لهم غالبية قليلة في محافظاتهم الانتخابية، منوط بالتجمعات الاسلامية المحلية. وهم يخشون من انهم اذا لم يصوتوا في مصلحة الاعتراف بدولة فلسطين، فإنّ المسلمين كفيلون بأن يبقوا في بيوتهم أو أن يصوّتوا لأحزاب أخرى. ويكاد المقترعون المسلمون لا يشكلون عاملاً حاسماً في المناطق الانتخابية التي يعلّق عليها المحافظون آمالهم. وقد أخذ رئيس الوزراء دايفيد كاميرون بمشورة مستشاره للانتخابات، لينتون كروسبي، الذي قرّر أنّه إذا غازل المحافظون الصوت المسلم، فإنهم سيخسرون مقترعين محافظين يميلون على أيّ حال للتصويت إلى حزب الاستقلال البريطاني الذي يعارض الهجرة إلى بريطانيا.
في حرب «الجرف الصامد»، عارض كاميرون مطالبات شركائه في الائتلاف من الحزب الليبرالي الديمقراطي، شجب «إسرائيل» على أعمالها في غزّة، ولكن في النهاية اضطر إلى التراجع أمام مطالبهم والموافقة على التصريح الذي أصدره وزير العمل عضو الليبراليين الديمقراطيين، وجاء فيه أنّه إذا كان تصعيد في غزّة فستدرس الحكومة رخص التصدير لعناصر من الاسلحة التي تشتريها «إسرائيل» في بريطانيا. وحتّى هذا التصريح لم يكن له معنى عملي فإسرائيل على أيّ حال تشتري القليل جداً من العتاد العسكري في بريطانيا ، ولكنه دلّ على كيف أصبح النزاع «الإسرائيلي» ـ الفلسطيني مسألة حسّاسة في السياسة المحلية في بريطانيا. واليوم أيضاً، عندما يصوّت البرلمان البريطاني في مصلحة الاعتراف بفلسطين، سيكون هذا مرّة أخرى تصويتاً سياسياً مع معنى محليّ، ولكن عديم الوزن السياسي الخارجي.