فخامة العميل وعمائم الفتن والعمالة
د. رائد المصري
طالما أرادوها بهذه الوقاحة والتباهي، فتجب تسمية الأشياء بمسمّياتها، ولو كانت بحجم الدم والتجزير بحقّ أبناء جلدتهم الذين تفوّقت فيها عنصريتهم حدّ التعفّن في الحرب الأهلية اللبنانية، واستحضار موروثات القتل لديهم والتفنّن فيها لإعادة صياغة كيان لبنان الوظيفي وفق الرؤية والمنهاج الإسرائيليين، طالما حلموا وقاتلوا من أجله وعقدوا الاتفاقيات مع هذا الكيان العنصري الذي يتطابق بوجهه ووجهته مع أغلبية مَن يطالب ويريد محاكمة الأبطال والمقاومين، ليس فقط في لبنان بل على امتداد الساحات العربية، ليصل بهم الأمر إذا ثبت لديهم وبـ»الوجه الشرعي» حدّ مقاضاة مرزوق الغانم رئيس مجلس الأمّة الكويتي لطرده الوفد الصهيوني من اجتماع الجمعية العامة للاتحاد البرلماني العالمي، بحجّة الإخلال بالأمن داخل القاعة وهزّه مشاعر «الإسرائيليين» وإحساسهم المرهف على قتلهم أبناء فلسطين…
عندما تبدأ العوالق في لبنان تأكل بعضها يتوضّح ما هو مرسوم للمستقبل، فحديث النائب ستريدا جعجع أمام وفد شعبيّ في أستراليا وتباهيها بأفعال زوجها رئيس حزب القوات سمير جعجع في ارتكاب مجازر زغرتا من أجل الفوز بقلبها، أعادت بنا في الذاكرة الإغراءات التي قدّمتها هند بنت عتبة للعبد وحشي بغية قتل حمزة وانتزاع كبده في معركة أُحد، وها قد تزوّجت ستريدا سمير جعجع على مهر وقدره دماء جيهان طوني فرنجيّة ومجزرة إهدن… هم قالوا وصرّحوا ووثّقوا صوتاً وصورة…
وعليه يبدو أنّ الحكم بالإعدام للمقاوم حبيب الشرتوني لا يهدف إلى قتله، بل يهدف إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، فهو يشير لتبرئة شريحة لبنانية تورّطت تاريخياً بالعمالة مع العدو «الإسرائيلي» بحجّة الدفاع عن النفس، وصارت نموذجاً يُحتذى به، وظهرت نسخها وصورها السيئة ليس في لبنان فحسب، بل في المعارضات السورية وتعاملها مع الصهاينة ضدّ الدولة السورية… وظهرت النسخة الأخرى الأشدّ مقتاً في تعامل البرزاني في كردستان العراق، وظهرت في تعاون البعض من فرسان التطبيع العربي مع «إسرائيل» ضدّ المقاومة وسورية وإيران واليمن…
خطورة هذا الحكم تكمُن في أنّه صدر في ذروة انتصار محور المقاومة وهزيمة المشروع الصهيوني، فنسأل: ما هو مصير المقاومين وبيئاتهم إذا انهزمت المقاومة؟ لقد صار للعملاء حصانة سياسية ومذهبية وقضائية، فما هي الفائدة من اكتشاف عملاء جدد والقبض عليهم…؟ فالمقاومة في خطر أيّها السادة…
لا يستطيع اللبناني إلاّ التساؤل والبحث والتفتيش لمعرفة مواقف رجالات الدين من أصحاب العمائم القريبين من السّلطة والبعيدين عنها، حول شرعية العمالة والتسهيل للعدوّ الصهيوني في اجتياحه لبنان واحتلال عاصمته بيروت عام 1982، وما إذا كانت مثبتة وجهة العمالة لبشير الجميّل ومن كان معه، وإذا كان يخالف ذلك أوجه الشّرع الفقهية مع عدوّ مناقض للحياة وللوجود وللنظريات الدينية والفقهية كلها، حتى فتاوى السلطة الجديدة المعتمدة في لبنان وفي دنيا العرب بجواز مقاتلة القريب قبل «إسرائيل» البعيدة. لقد بلعوا ألسنتهم أقلّه منذ انتصار حرب تموز 2006 الى اليوم بشأن «إسرائيل» وعملائها والمقاومة، وانبروا يفتّشون عن مخارج فقهية تشرّع أو تقيهم شرّ الفتنة السنية الشيعية المفترضة وغير الموجودة إلاّ في أدبيات بعض الراديكاليين والملحقات الليبرالية من زعامات الطوائف ومزارعها وإقطاعاتها السياسية، لضمان استمرار وصول الظرف المالي الى جلابيبهم عند كلّ مطلع شهر ميلادي…
أيضاً من المبكّر الحديث عن إمكانية تطاول هؤلاء العملاء لأكثر من استهداف منفّذ حكم الشعب، بحكم لأوصياء غير أوفياء إلاّ في توفير المناخ السياسي لاستكمال مسلسل استهداف المقاومين في لبنان وسورية والمنطقة، ذلك أنّه من المبكّر جداً ابتلاع موقف رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم بسرعة في العقل الجمعي العربي، وقد يكون من المبكّر الحديث أيضاً عن الجهة التي وقفت خلف اغتيال القائد العسكري الكبير اللواء عصام زهر الدين في انفجار عبوة ناسفة في الآلية العسكرية التي كانت تقلّه، الاّ أنّ هنالك الكثير من الشكوك التي تراودنا وتدفعنا للاعتقاد بأنّ عملية اغتياله نفّذتها جهة لديها إمكانيات ومقدرات لوجستية واستخباراتية كبيرة ومتطوّرة، ربّما أكبر من تنظيم داعش والنصرة، انتقاماً من هذا القائد، نسبة للدور الذي لعبه في إفشال مخطّطاتهم.
وما يدفعنا لهذا الاعتقاد في تصفية أو محاولة تصفية الأبطال القادة والمقاومين، هو أنّ اللواء زهر الدين ساهم مساهمة فعّالة وكبيرة في كلّ الانتصارات المتحقّقة على العصابات التكفيرية على امتداد الجغرافيا السورية، والتي كان آخرها انتصار دير الزور الاستراتيجي. وهو ما شكّل انعطافة استراتيجية في مسار الحرب الكبرى التي شنّت على سورية منذ العام 2011 ومحور المقاومة.
لا نقصد هنا السلفيات الجهادية كداعش والنصرة فقط التي شكّلت حالات الإلغاء والقتل، بل حالات مشابهة مارستها قوى سياسية في لبنان أيضاً، وقضت بتصفيات وباغتيالات كبرى، ليس أقلّها اغتيال رئيس حكومة لبنان رشيد كرامي.
فإنجازات المقاومين الأبطال في مسار هذا الصراع الطويل، شكّلت ضربة موجعة لداعمي ومشغّلي العصابات التكفيرية، لأنّهم أولاً قضوا على أحلامهم بتقسيم سورية وثانياً فوّتوا عليهم الفرصة للسيطرة على منطقة البادية السورية التي تحوي أكثر من ثمانين في المئة من احتياطي النفط والغاز في الجمهورية العربية السورية، وثالثاً لأنهم ضمنوا عملية التواصل البرّي بين طهران وبغداد ودمشق وبيروت… وهذه الأخيرة التي أفشل المقاومون الأحرار مشروع تهويدها ورهنها لـ«الإسرائيلي» وللمستعمر الأميركي، يريدون الاقتصاص منهم الآن في زمن الانتصارات… إنه العهر المعولم والتكتّلات العصائبية الملتحمة والملتفّة على بعضها البعض، والتي قلّما تستحكم فيها الدولة…
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية