الأزمة دستورية… ولكن تجلياتها سياسية واقتصادية وإدارية

فهد الريماوي

نعلن بأعلى الصوت وأعرض العناوين، أنّ الدولة الأردنية تعمل بلا روح، وتخطو متثاقلة بلا حيوية، وتسير فقط بقوة الاستمرار، وتعاني هبوطاً متواصلاً في الأداء، وتُقصر جهودها ونشاطاتها على مجرد تحصيل الحاصل وتصريف الأعمال الروتينية ومداومة دقّ الماء في الإناء.

نعلن بأعلى الصوت وأضخم العناوين، أنّ الأزمة الراهنة التي تأخذ بخناق البلاد والعباد، هي أزمة دستورية أولاً وأساساً، وأنّ الأزمات السياسية والاقتصادية والإدارية التي تتفاقم يوماً بعد يوم، ليست سوى تجليات تعبيرية وتفصيلية عن الأزمة الأمّ المتمثلة في غياب الحياة الدستورية، وإضعاف السلطات الثلاث… التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإبعادها عن دورها الدستوري في المشاركة بتحمّل المسؤولية وصنع القرار.

كلنا يعرف عمق المأزق الاقتصادي الذي ننحشر في قلبه، وكلنا يدرك حجم الترهّل والتسيّب والفساد المتغلغل في الدوائر الحكومية والمؤسسات العامة. وكلنا يعي فداحة التفاوت الطبقي بين أقلية مترفة وأغلبية كادحة. وكلنا يلمس تدنّي مستوى الكفاءة في المدارس والجامعات والبلديات والمستشفيات ودور الرعاية وباقي المرافق الخدمية. وكلنا يعلم علم اليقين مدى التدهور الأخلاقي بين الناس، وابتلاء المجتمع بآفات القتل والغشّ والنصب والكذب والسرقة والاعتداء على المعلمين والأطباء وغيرهم… فماذا ننتظر، أو ماذا ينتظرنا، إذا ما ظلّ الحال دارجاً على هذا المنوال؟

أعمى تماماً كلُّ من لا يرى هذه المظاهر المقلقة والمؤرقة والمرشحة للتصعيد والتعقيد إذا لم يتمّ التصدّي لها بقوة وحزم، اليوم اليوم وليس غداً.. ذلك لأنّ التأخير في المعالجة سوف ينطوي على المزيد من الأخطار والمصاعب والتداعيات السلبية التي لا تُحمَد عقباها أبداً.

أغلب النخب الوطنية، والهيئات الشعبية، والأحزاب السياسية، والنقابات المهنية والعمالية طالبت، عبر مئات البيانات وعلى مدى خمس سنوات، بتفعيل الدستور، ومباشرة الإصلاح السياسي الجدي، وتفعيل آليات المحاسبة والمساءلة، ووقف المصادرة المتواصلة للحريات العامة، واحترام التعددية السياسية والتنوّع الفكري والثقافي، وتشكيل حكومة توافقية قوية ذات صلاحيات واسعة وولاية دستورية… ولكن كلّ هذه المطالبات والنداءات لم تُجدِ نفعاً، ولم تغيّر واقعاً، بل ذهبت أدراج الرياح.

وعندما يضطر رجل مثل عبدالهادي المجالي، المعروف بشدة ولائه للنظام، للتفكير الجدي في حلّ حزب التيار الوطني الذي يترأسه – جراء عقم التجربة الحزبية وانسداد آفاقها – فلا بدّ أن نضع أيدينا على قلوبنا، وأن نعتبر ذلك بمثابة «جرس إنذار» يدقّ محذّراً من خطورة ما آلت اليه أمورنا العامة بأسرها، وليس المنظومة الحزبية وحدها.

مؤسف أن يقرّر هذا الرجل اعتزال العمل العام، وسحب تياره الوطني من التداول الحزبي… ذلك لأنّ هذا القرار لا يندرج في إطار القرارات الفردية أو المواقف الفئوية الخاصة والمحدودة، بل يأتي في سياق حالة وطنية مأزومة تطال الدولة الأردنية بمكوّناتها كلّها، وتحاصرها من الجهات جميعها، وتضطرها للسير بعكس عقارب الساعة.

نعم… ليست الأحزاب السياسية وحدها التي تهرقلت وتجوّفت وفقدت جوهرها ومبرّر وجودها، وتحوّلت بالتالي واجهات وديكورات شكلية منزوعة الفاعلية… بل اتسعت فتحة البيكار لتشمل الحكومات والبرلمانات والمراكز الثقافية والإعلامية، وحتى القوى والشخصيات المعارِضة التي باتت كلّها بلا دور ولا تأثير، فيما عدا الجماعة الإخوانية التي تُعتبر المستفيد الأوّل من هذا الحال المائل والوضع البائس.

ليت هذه السابقة «المجالية» تشكل درساً للنخب الأردنية بسائر تلاوينها وتوجّهاتها، فتكفّ عن التهافت على المناصب والمراتب والمواقع الرسمية والحكومية، لغرض الوجاهة والثروة والخلاص الفردي، ومن دون ان يكون لها إسهام يُذكَر في صناعة القرار ومزاولة السلطة وضبط البوصلة وتحديد الاتجاه… ضاربة عرض الحائط بما كان لديها من مبادئ وقناعات ذاتية، وسادرة في التكيّف الانتهازي مع متطلّبات المناصب التي تتقلدها، ومتورّطة في قلب الحقائق وتبرير التغوّل الفوقي على سائر المرافق والمؤسسات العامة.

ولسنا ندري، ماذا يعني شعار «الاعتماد على الذات» المطروح هذا الأوان، وكيف يمكن تطبيقه على أرض الواقع، في غياب الحماس الوطني، والمشاركة الشعبية، والقدوة المثالية، والإدارة الإبداعية، والمشروع التنموي والنهضوي الجامع، والعدالة في توزيع الغُرم والغُنم، والتصدّي لحماية الطبقة الوسطى ليس من ثقل الأعباء المعيشية فقط.. بل حمايتها أيضاً من ذاتها وانحرافاتها وتواكلها وتردّي إنتاجيتها، بعدما اخترقها «الإسلام السياسي» طولاً وعرضاً.

وعليه، فالأزمة عاتية والمأزق خطير والدولة تضعف يوماً بعد يوم، وليس في الأفق القريب ما يشير إلى صحوة وطنية إنقاذية، وتوافق سياسي بين الحاكمين والمحكومين، وقناعة بضرورة إحياء الدستور وتعمّق المسار الديمقراطي وتشكيل حكومة نوعية.. فماذا بعد؟ وهل بات الكلّ الأردني يقف وسط الزاوية الحرجة وأمام الباب المسدود؟

رئيس تحرير جريدة «المجد» الأردنية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى