مجتمعات آيلة للسقوط!
د. محمد سيّد أحمد
لقد وصلت مجتمعاتنا العربية التي تحرّرت من الاستعمار القديم تباعاً بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع السبعينيات من القرن العشرين، الى حالة من التدهور الشديد على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية كافة، وهو ما وضعها وبجدارة ضمن مجتمعات العالم الثالث في الدراسات والتقارير الدولية ذات العلاقة، لذلك حاولت منذ إعلان استقلالها النهوض للحاق بركب التقدّم، لكن الاستعمار الجديد الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى في العالم بعد الحرب العالمية الثانية كان قد اخترع آليات جديدة لاستمرار التبعية وتكريس التخلف داخل مجتمعاتنا العربية من أجل استمرار استنزافها ونهب ثرواتها.
وتعدّدت أشكال محاصرة ومحاربة أي تجربة تنموية مستقلة. وتُعدّ تجربة جمال عبد الناصر هي الأبرز في هذا السياق، حيث تمكنت من مواجهة القوى الاستعمارية القديمة والجديدة وقامت بتشييد مشروعها التنموي الذي حقّق نجاحات كبيرة انعكست على أحوال الغالبية العظمى من المواطنين خاصة الفقراء والكادحين والمهمّشين على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية كافة، وبإجهاض هذه التجربة تدريجياً بالهزيمة العسكرية في حزيران/ يونيو 1967، ووفاة عبد الناصر
في أيلول/ سبتمبر 1970، وتصفية أركان نظامه في أيار/ مايو 1971، والإعلان عن الانفتاح الاقتصادي في تشرين الأول/ أكتوبر 1974، وزيارة السادات للقدس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في أيلول/ سبتمبر 1978… نجحت الولايات المتحدة الأميركية في تشكيل نظام عالمي جديد بقيت فيه مجتمعاتنا العربية في ذيل الترتيب العالمي على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية كافة.
وإذا كان الاستعمار القديم قد قام باعتماد آلية التقسيم والتفتيت لمجتمعاتنا العربية لإضعافها والاستيلاء على خيراتها، حيث قامت انكلترا وفرنسا بعملية التقسيم في مطلع القرن العشرين وتمّ توزيع الغنائم بينهما، ولم تكن الولايات المتحدة الأميركية قد ظهرت على الساحة الدولية كقوة عظمى، لذلك لم تحصل على نصيبها من كعكة التقسيم والتفتيت، وعندما أصبحت هي القوة العظمى في العالم رأت أنّ هذا التقسيم لم يعُد صالحاً ولا بدّ من بدأ عملية تقسيم وتفتيت جديدة تخضع لهوى المستعمر الجديد.
ومع مطلع السبعينيات من القرن العشرين بدأت في رسم خريطة جديدة لنفوذها في المنطقة العربية، ورسمت مشروعها التقسيمي والتفتيتي الجديد عبر أفكار زبيغنيو بريجنسكي وبرنارد لويس، وبدأ المشروع في تنفيذ مخططاته الشيطانية عبر آليات جديدة تعتمد بشكل أساسي على إشعال الفتن الداخلية الطائفية والمذهبية والعرقية، هذا إلى جانب تكريس التخلف والتبعية وعدم تمكين مجتمعاتنا من أيّ عملية إصلاحية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، لذلك عندما انطلقت شرارة الربيع العبري كانت غالبية مجتمعاتنا العربية قد أصبحت آيلة للسقوط.
فالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للغالبية العظمى من المواطنين داخل الأقطار العربية المتخلفة – بدرجات متفاوتة – قد أصبحت متدهورة بشكل كبير، ولم تعد عمليات الإصلاح تجدي معها. فعندما تمّ إشعال النيران كانت التربة جاهزة ومستعدّة للاشتعال. فالتحرك في تونس ومصر واليمن وجد البيئة الحاضنة جاهزة للانفجار نتيجة التفاوت المذهل والاستقطاب الواضح في الخريطة الطبقية داخل هذه المجتمعات، حيث يمكنك وبسهولة شديدة ملاحظة الفروق الشاسعة بين فئة قليلة من الأغنياء وغالبية كاسحة من الفقراء، وهو ما لم تستطع معه السلطة السياسية في الصمود كثيراً أمام الطوفان الجماهيري المنفجر.
وبالطبع الوضع في ليبيا كان مختلفاً الى حدّ كبير، لكننا لا نستطيع أن ننكر أنّ السلطة السياسية التي استمرّت على مقاعدها لمدة تجاوزت الأربعة عقود كانت قد تكلّست ولم تستطع بناء مشروع تنموي حقيقي رغم توافر كلّ الإمكانيات المادية اللازمة لذلك، فعندما اشتعلت النيران كانت البيئة الحاضنة جاهزة، حيث استخدمت ورقة الفتنة بين القبائل والعصبيات، وانتشرت بينهم الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة الوافدة من الخارج بواسطة المال الخليجي والسلاح الأميركي الصهيوني ودارت الحرب على كامل الجغرافية الليبية. حاولت السلطة إطفاء النيران المشتعلة لكن القوى الخارجية الأصيلة في هذه الحرب كانت قد أسرعت بالتدخل العسكري المباشر واستمرت في القصف الجوي المساند للوكلاء الارهابيين على الأرض، ورغم الصمود لمدة ثمانية أشهر إلا أنّ حجم المؤامرة كان أكبر من قدرات ليبيا وجيشها وقيادتها السياسية على الصمود.
والوضع الوحيد المختلف الى حدّ كبير في هذه المؤامرة على أمتنا العربية، هو وضع سورية التي كانت قبل اشتعال النيران قد تمكّنت من بناء مشروع تنموي مستقلّ الى حدّ كبير. فكانت الدولة العربية الوحيدة التي تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع، وكانت قد اقتربت من تحقيق الاكتفاء الذاتي، وكانت الدولة العربية الوحيدة التي لا توجد عليها ديون خارجية خاصة للقوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وعلى الرغم من محاولات الأميركان والصهاينة استخدام كلّ أدواتهم التقسيمية والتفتيتية في حربهم الكونية على سورية إلا أنها تمكّنت من الصمود بفضل مشروعها التنموي وصلابة وتماسك شعبها وقوة جيشها وقدرة قيادتها السياسية على إقامة تحالفات استراتيجية قوية على المستويين الإقليمي والدولي.
وبالطبع لم تنته المؤامرة على أمتنا، فما زال المشروع التقسيمي والتفتيتي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها الصهيونية لم يحقق أهدافه كاملة، وما زالت هناك مجتمعات عربية لم تشتعل النيران فيها بعد لكنّها بأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية تعدّ آيلة للسقوط، وعليها أن تتحرّك فوراً لترميم مجتمعها من الداخل، وأولى عمليات الترميم هي بناء مشروع تنموي مستقلّ والفكاك من أسر التبعية للمشروع الاستعماري الغربي، والتحرّك نحو إحياء فكرة الوحدة العربية فهي السبيل الوحيد لمواجهة مخططات التقسيم والتفتيت، اللهم بلغت اللهم فاشهد.