التاريخ لا يعيد نفسه إلاّ بفضل الأغبياء…
وجدي المصري
التاريخ يعيد نفسه مقولة تتردّد دائماً على ألسنتنا عندما يصادفنا حدث نربطه بحدث مماثل وقع في تاريخ سابق بغضّ النظر عن الفترة الزمنية التي تفصل بين الحدثين. أمّا إذا تمعّنا بهذا القول وعمدنا إلى تحليله لوجدنا أنّه لا ينطبق على الواقع ويتناقض أيضاً مع المثل الشعبي: ما في يوم بيروح وبيجي مثلو ، وذلك لأنّ أيّ حدث مرهون بظروف محدّدة على صُعد المكان والزمان والاجتماع والثقافة والوعي. من هنا لا يمكن مثلاً أن نشبّه حدثاً يقع اليوم، أيّ في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، بحدث وقع في القرن الماضي على سبيل المثال، ونُسقط عليهما صفة التشابه دون أن نأخذ بعين الاعتبار من كان مسؤولاً عن الحدثين؟ وفي أية ظروف حصل كلّ من الحدثين؟ وكيف جرى تقويم كلّ حدث؟ وهل كان هناك توافق حول هذا التقويم؟
فإذا ما حاولنا إسقاط هذا القول على حدثين أحدهما حصل عام 1949 والثاني عام 1982 لوجدنا أنّ الحدثين متشابهان. الأول قيام أفراد من حزب الكتائب بمهاجمة مطبعة الحزب السوري القومي الاجتماعي في حي الجمّيزة في بيروت والاعتداء على العاملين فيها مدفوعين من السلطة السياسية الحاكمة لكي تملك المبرّر لملاحقة زعيم الحزب وأعضائه ظنّاً منها أنّها بذلك تقضي على الحزب نهائياً تنفيذاً لمؤامرة الصهيونية العالمية بالتعاون مع الرجعية العربية لقناعتهما أنّ فكر مؤسّس الحزب أنطون سعاده يدحض المزاعم الصهيونية حول إقامة دولة يهودية في فلسطين من جهة، ولأنّهما اعتبرتا حزب سعاده هو الخطة النظامية المعاكسة للصهيونية والذي إذا استمرّ بالتمدّد على كامل مساحة الوطن السوري سيستطيع أن يتصدّى لمخطط الصهيونية من جهة ثانية. الحدث الأول أتت نتائجه لتتوافق مع طموح الطبقة الحاكمة فتمّ إعدام سعاده بعد محاكمة صورية، لكنّها لم تنجح في الجزء الثاني من مخططها الهادف الى القضاء الكلّي على حزب سعاده الذي استمرّ بمواجهة الدولة اليهودية المستحدثة وبمواجهة السلطة في آن.
أمّا الثاني فقيام بشير الجميّل عام 1975 بالتعامل مع العدو ذاته الذي كان والده، ومنذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، قد مدّ الجسور معه كغيره من الساسة اللبنانيين والعرب في حينه كما أرّخ لذلك الكاتب الفرنسي ريشار لابفيير.
نتائج الحادث الأول أتت بعد سنوات عندما نفّذ أحد القوميين الحكم برياض الصلح الذي كانت له اليد الطولى باتخاذ قرار إعدام سعاده، واعتبرت تصفية الصلح جزءاً من المساهمة الوطنية بالتخلّص من أحد رموز الرجعية العربية التي تآمرت مع العدو الإسرائيلي للقضاء على سعاده. ونتائج الحدث الثاني أتت بعد أيام معدودة على انتخاب عميل إسرائيل رئيساً لجمهورية لبنان بحماية الدبابات الإسرائيلية وتقديراً له من العدو على الخدمات التي قدّمها له من خلال تسهيل دخوله إلى لبنان ومساعدته بالمذابح التي ارتكبت بحق الفلسطينيين. فالعمالة للعدو لها عقوبة في كلّ دساتير الدول، إلاّ أنّها في لبنان تأخذ بعداً آخر نتيجة الانقسام الجذري حول مفهوم الوطن بالدرجة الأولى، ومفهوم تحديد الصديق والعدو بالدرجة الثانية.
فالتبريرات التي سيقت مؤخراً، بعد صدور الحكم على حبيب الشرتوني، حول مسألة التعامل مع العدو الإسرائيلي خلال فترة الأحداث اللبنانية لا تمتّ إلى المنطق والعقل والقانون بأية صلة. فإذا كانت الفئة التي أشعلت الحرب الأهلية قد سعت لتأمين مصادر الدعم خاصة لجهة السلاح، ألم يكن هناك غير دولة العدو تلجأ إليها لتحقيق هذه الغاية الوطنية ؟ وكيف تكون الغاية وطنية إذا تمّ الاعتماد على عدو الوطن لتحقيقها؟ أما القول بأنّ كلّ من يتعامل مع دولة أخرى هو عميل فهو تعميم سطحي في غير موضعه لأنّ العدو محدّد منذ قيام دولته على أرض فلسطين، وتجذّر هذا التحديد بعد قيام هذا العدو باجتياح لبنان واحتلال أجزاء من أرضه أكثر من مرة، بينما لم تحدّد السلطات اللبنانية لغاية الآن عدواً آخر غيره، خاصة أنّ البلدان التي يعتبرها البعض عدوة كسورية وايران، للبنان معها علاقات رسمية، وبينها وبين لبنان اتفاقيات اقتصادية، وهذا لم يحدث أبداً مع العدو الإسرائيلي، ويبقى النظر إلى هذه الدول من قبل البعض هو بمثابة الموقف السياسي الخاص وليس موقفاً رسمياً للبنان، وهنا يكمن الفارق الكبير. ولا يمكن لأيّة فئة أن تغيّر، مهما غالت بالاجتهاد، مفهوم العمالة وتُدخل إليه مفاهيم جديدة تخدم أغراضها وتبرّر تورّطها مع أسوأ عدو لبلدنا عرفه التاريخ. هذا العدو الذي لم يزل حتى الساعة يسعى لتحقيق أحلامه الدينية التي حدّدت له لبناننا كجزء من الأرض التي وعده إلهه في أكثر من موضع من كتابه الديني الذي يعتبره كثيرون للأسف كتاباً مقدّساً وهو يخلو من كلّ قداسة. فقد جاء في سفر التثنية ما حرفيته: … كلّ مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم، من البريّة ولبنان، من نهر الفرات الى البحر الغربي يكون تخمكم . ويتكرّر هذا الكلام في سفر يشوع وفي أكثر من اصحاح وسفر من التوراة. وهذا برأيي ما يفسّر ما يحدث على امتداد سورية الطبيعية التي يعتبر اليهود حدودها هي حدود دولة إسرائيل. فمخطط كيسينجر يجري تنفيذه اليوم، وها هو تقسيم بلادنا ثانية قد بدأ من العراق بزرع إسرائيل ثانية ، ولن يتراجع قبل تحقيق تقسيم كلّ دول سايكس بيكو المحيطة بـ إسرائيل تمهيداً لإعلان إسرائيل دولة اليهود في العالم، ولتصبح الدولة الأقوى المسيطرة في المنطقة استناداً إلى النخوة العربية التي اقتنعت بشكل قاطع بأنّ إسرائيل ليست عدوة بل العداء كلّ العداء يتمثل بإيران الشيعية التي تريد السيطرة على العالم الإسلامي السني.
لقد باع العرب فلسطين منذ أن بدأ اليهود يفكّرون بإقامة دولة لهم فوق التراب الفلسطيني، وها هم يستكملون البيع العلني اليوم، فهل يصحّ القول بأنّ التاريخ يعيد نفسه مع العرب ومع حزب الكتائب على السواء؟ من حيث الواقع فمجريات الأمور تؤكد ذلك، ولكن إنْ أردنا التحليل نصل إلى قناعة بأنّ ذلك لم يكن ليحصل ثانيةً لو لم يكن الفريقان غبيّين بما يكفي لكي يُلدغا من الجحر مرتين، من هنا نستطيع القول بأنّ التاريخ يعيد نفسه بفضل الأغبياء فقط، لأنّ الغبي وحده يرتكب ذات الخطأ مرتين أو أكثر. وارتكاب الأخطاء أمر طبيعي وبديهي بالنسبة للبشر، أفراداً كانوا أم جماعات. لكن ارتكاب الخطأ ذاته أكثر من مرة يصبح خياراً إرادياً وهنا تكمن الخطورة. فمن يأخذ خيار العمالة وهو عالمٌ بمحاذير وخطورة هذا الخيار، فهذا يعني أنّه مصمّمٌ بشكل مدرك وواعٍ لنتائج خياره غير آبه بانعكاسات هذا الخيار على الآخرين الذين تربطه بهم روابط عديدة نتجت عن تفاعل حياتي يومي في بيئةٍ جغرافيةٍ واحدة عبر آلاف السنين. وهذا يؤدّي بالفعل الى ما وصلنا إليه من انقسامٍ أفقي وعمودي لم يعد بالإمكان الخروج منه بسهولة.
الخيارات الخاطئة لا بدّ أن ينتج عنها مواقف كارثية كالتي نشهدها على الساحة المحلية هذه الأيام، وهذا ما يعيدنا الى السؤال المركزي الذي طرحه سعاده على نفسه عندما بدأ دراسة أوضاع أمته: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ إنّه السؤال نفسه يطرح اليوم لأنّ الويل لا يزال يلاحقنا طالما أنّنا لا زلنا منقسمين حول الأسس التي يجب أن يقوم عليها الوطن. فلو كنّا نملك الوعي الكافي لكان علينا أن نتعلم من أخطائنا فلا نكرّرها لكي لا نكون أغبياء يصحّ فينا القول المأثور: التاريخ يعيد نفسه. وسيبقى يعيد نفسه إنْ استسلمنا لغبائنا وتركنا أصحاب المصالح الخاصة يتحكّمون بمفاصل حياتنا دون أن تكون لنا جرأة المواجهة واتخاذ الموقف، والأوطان لا يمكن أن تبنى إلا بوعي متميّز متفلّت من كلّ العقد الموروثة التي تكرّس ضبابية المفاهيم. فيا لخجل التاريخ منّا، لأنّه سجلٌ متحركٌ لأفعالنا الإرادية ولا ذنب له إن نحن كرّرنا جهالاتنا.