غصوب: الباحثون عن الثقافة هم الخميرة التي تؤسّس للرقيّ
عبير حمدان
حين ينسكب الحبر على إيقاع اللحن المقيم بين حجارة البيوت العتيقة، يصبح الشعر مادة قدسيّة تتخطّى اللحظة وترسم السموات بكلّ الألوان الممكنة، والحبّ قصيدة هاربة بين أشجار الصنوبر تبحث عن تجرّدها من الضجيج. ومن قال إنّ اللغة لا تتنفس روح المكان سعياً إلى البقاء في مواجهة العبارات الافتراضية المستحدثة تحت سقف مقولة مواكبة سرعة الزمن، ومن قال إنّ الزمن يتفوق على سحر الكلمات التي تحفر عميقاً في الذات.
بين المكان ورموزه صلة متجذّرة تجعل أيّ زائر لقرية الفريكة المتنية عاشقاً وشاعراً بالفطرة. هناك، يمكنك أن تلمح طيف أمين الريحاني وتسعى إلى التوغّل أكثر في عمق التاريخ علّك تقطف بعضاً من فلسفته. وفي مكان آخر تتعلّق بمسرح الحياة حيث تأخذك الدرب إلى ذلك البيت العتيق الذي نسج الحرير وتحوّل إلى واحة ثقافية وفنّية بهمّة المسرحيّ الكبير منير أبو دبس الذي غاب جسداً مخلّفاً للأجيال مساحة من الألق من خلال مهرجان الفريكة الثقافي.
هو بيت الفنون الشاهد على أنّ الفكر لا يمكن تأطيره أو تعليبه بحجارته الأزلية، يفتح قلبه مساء غدٍ الجمعة لعصف اللغة والموسيقى واللون. وعلى مدى ثلاثة أيام، يعود طيف المخرج العالمي منير أبو دبس إلى قريته التي لم تغادره يوماً.
برعاية بيت الفنون في الفريكة وتنظيمه، وتحت عنوان «كلمات»، ينطلق «مهرجان الفريكة الدولي للفنون والآداب»، ويشمل في دورته الحالية: الشعر، اللغة، المسرح، الرسم، الموسيقى والغناء. يشارك في أعمال المهرجان شعراء، فنانون، ولغويون من لبنان وفرنسا وألمانيا والعراق وسورية، وتستمر الأنشطة لثلاثة أيام متتالية في الدورة الأولى من المهرجان بعد رحيل مؤسّسه رائد المسرح الحديث المخرج العالمي منير أبو دبس.
الجدير ذكره أنّ أبو دبس كان قد أسّس مهرجان الفريكة بعد عودته إلى لبنان عام 1999، وأصبح تقليداً سنوياً للاحتفاء بالآداب والفنون من مختلف البلدان والثقافات، وليبقى لبنان مَعْلماً من معالم رعاية الإبداع الإنساني العالمي.
غصوب: تكوين النهضة
يستطيع الشاعر مكرم غصوب نقل الحماسة إلى من يقصد الفريكة بهدف الحصول على كافة تفاصيل الحدث الثقافي المنتظر، وهو يبرع في رسم الملامح بشكل واضح. يستقبلنا «تحت العريشة» حيث تمتزج أبجديته بعبق البخور والياسمين ووريقات الحبق وكلّ ما يخطر في البال من جمال، ومعه نتابع الاستكشاف لندرك أنّ هناك بقعة في لبنان لم تزل خضراء، وصولاً إلى مسرح الفريكة، ليخبرنا عن المهرجان فيقول: مهرجان الفريكة الدولي للفنون والآدب ليس ابن ساعته، إنما هو حدث ارتبط بسحر هذه الأرض منذ أسّسه المسرحي العالمي منير أبو دبس حين عاد من فرنسا عام 1999. وهو مهرجان ثقافيّ راقٍ وعالميّ ويتخلّله شعر ورقص وموسيقى ورسم.
ويضيف: كتابي الأول وقّعته هنا عام 2008، السنة الماضية غادرَنا منير جسدياً وبقي فكره حاضراً، ولذا قرّر نجله جيل أبو دبس تحويل هذا الفكر إلى مؤسّسة ثقافية وكان لي شرف الانضمام إلى هذا المشروع إضافة إلى تلامذة منير. وما يختلف هذه السنة أنّ منير ليس موجوداً بيننا. واخترنا عنوان «كلمات» تحية إلى مؤسّسه، وقد كان في أيامه يمتدّ إلى اسبوعين لكننا قرّرنا أن يكون على مدى ثلاثة أيام فقط إنّما على مدار السنة، حيث سيكون فصلياً وفي كلّ فصل موضوع وعنوان جديد.
وعن مقاييس اختيار المشاركين من الشعراء على سبيل المثال، يقول غصوب: نحن ضمن اللجنة لكلّ منّا اختصاصه، وأنا كشاعر اخترت شعراء معروفين برقيّهم وكلماتهم، مثل هاني نديم وناصر الحجاج نقيب الصحافة في البصرة ونسرين كمال وعصام عساف وآخرين مع حفظ الألقاب طبعاً، وهناك شعراء من فرنسا وألمانيا وستُترجَم القصائد بشكل فوريّ بكافة اللغات. هو مزيج من تداخل الكلمات. أما في الليلة الثانية فسيكون هناك عرض مسرحيّ ارتجالي لتلامذة منير أبو دبس كتحية له، وبعدها ستُعقَد ندوة تفاعلية عن الكلمة تضمّ أشخاصاً متخصّصين في اللغة، للحديث عن اللغة من الجانب السيكولوجي. وفي الليلة الأخيرة ستتجلّى الكلمة بإطار صوفيّ، كما يتخلّل المهرجان معرض رسم لرسّامين من لبنان وفرنسا وطبعاً ستسكن الحروف اللوحات إنّما ليس فنّ رسم الحروفيات.
وعن المقدرة على استقطاب المتلقّي يقول غصوب: كما تعلمين نحن نعيش في زمن الانحطاط، ولكن هناك من يبحث عن الثقافة بما تضمّه من عمق. ومن يحمل هذا الهمّ يشكّل الخميرة التي تؤسّس للرقيّ. للأسف، الفنّ الذي نراه اليوم في لبنان رخيص، والفَرق بين الفنّ السطحيّ والثقافة كما الفارق بين ممارسة الجنس وممارسة الحبّ، إذ إن الفعل الأول لمن يدفع المال والثاني فعل راق فيه الكثير من الألوهة. ومَن يأتِ إلى هنا يدرك أنه آت لممارسة طقس ألوهي، ومن يحبّ أن يكون إلهاً ذا مكانه يمكنه أن يأتي إلى هنا. ما نقدّمه هو غذاء مدرحيّ كونه يغذّي الجسد والروح في آن، ولن نستسلم مهما تصاعد الانحطاط. الإنسانية لا تكتمل إلا بالثقافة. وقد قلت في إحدى المرّات: من لا يحبّ الشعر والفنّ لا يمكنه أن يعرف مفهوم الحب. ويبقى الأمل حاضراً، في كل الأزمة هناك عصور انحطاط ومن رحمها قيامة النهضة، والجميل أن تساهمي في تكوين هذه النهضة.
هاينه: حالة تجلٍّ
يتحدّث سيبستيان هاينه العربية بطلاقة، وهو شاعر ومستشرق ألماني يتقن خمس عشرة لغة، ويعتبر أنّ مهرجان الفريكة حدثٌ استثنائيّ في مكان ساحر. وعن مشاركته يقول: هذا المهرجان من المحطات الثقافية الفريدة والنادرة في محيط عربيّ يعيش الاستهلاك بأشكاله كافة، ومن حُسن حظّي أني تعرّفت إلى منير أبو دبس عام 2015 حين زرت لبنان، وتعرّفت إلى هذا المكان والتقيت الصديق مكرم غصوب. أنا أترجم الشعر اللبناني بالتعاون مع الدكتور سرجون كرم، وهنا أحبّ القول إنّي من محبّي المدرسة الكلاسيكية في ما يتّصل بالشعر. إنّما اسمحي لي وعلى هامش هذا الحدث الثقافي والفنّي أن أشير إلى نصوص مكرم غصوب بشكل خاص، و«الطارق» إصداره الأخير يظهر أن الغاية الفلسفية مما يكتبه تقارب أسلوب «نتشيه»، بمعنى أنه يكتب الفلسفة بأسلوب الشعر.
لكن هل الشعر الكلاسيكي لم يزل متماشياً مع سرعة العصر؟ يجيب هاينه: أنا لا أرفض كلّ الشعر الحرّ. إذ إنّ محمود درويش وغيره من الأسماء البارزة خرجوا من رحم المدرسة الكلاسيكية، ولكننا اليوم نشهد أشخاصاً يكتبون شيئاً ما يسمّونه شعراً، وهم أساساً لا يتقنون اللغة العربية.
وحول الجوّ الثقافي العام يقول هاينه: ربما لست في موقع يخوّلني التحدّث عن المهرجان بشكل تنظيميّ، إنّما من المفيد الإشارة إلى كلّ ما تشهده بيروت من أمسيات وندوات ولقاءات في مقاهيها يقارب الحالة الاستعراضية. ومَن يأتي ليستمع إلى الشعر هو في الحقيقة لا يسمع. ومن يدّعي أن يكتبه هو فعلياً لا يكتب. بينما هنا في قلب الطبيعة وبين حجارة هذه البيوت العتيقة يصبح الشعر حالة تجلٍّ لا تشبه كلّ ما ذكرته حول ظاهرة الأمسيات وضجيجها.
برنامج المهرجان
27/10/2017 الشعر فعل تجاوز اللغة باللغة.
الشعراء: هاني نديم من سورية، ناصر الحجّاج من العراق، نسرين كمال من لبنان، عصام عسّاف من لبنان، بول دو برانسيون من فرنسا ترجمة ميسون كمال ، سيبستيان هاينه من ألمانيا، أنطوان بولاد من فرنسا/لبنان، وضيف الأمسية الفنّان مارسيل نصر على العود.
28/10/2017: الكلمة بين المسرح واللاوعي
الارتجال على خشبة الكلمات
تلامذة منير أبو دبس من الرعيل الأخير: لوسيان بو رجيلي، طارق أنيش، مايا سبعلي، وطوني الريف.
اللغة في ظلال اللاوعي: فادي الأنسي لغوي ، بول دو برانسيون شاعر فرنسي ، سيبستيان هاينه لغويّ ألمانيّ يتقن 15 لغة ، وأدهم الدمشقي شاعر وممثل لبنانيّ .
29/10/2017: الكلمة بين الموسيقى والموسيقى
تجّليات صوفية، فرقة «تجلّي».
على إيقاع الكلمات: إيلي عقيقي وفرقة «لاتينو لوكو».
يتخلّل المهرجان معرض رسم بالكلمات للرسّامين: لوركا موبورغي فرنسا ، صوفي فوتور فرنسا ، جهاد السمّاك لبنان ، نسرين الأشقر لبنان ، عماد برباري لبنان ، وجيل أبو دبس لبنان .