هل ينجح ترامب بتفجير لبنان؟

د. وفيق إبراهيم

العقوبات الأميركية قيد الإعلان، التي تستهدف في ظاهرها حزب الله، تذهب هذه المرّة بشكل صريح وعلنيّ نحو تفجير لبنان الحكومي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتدفع العلاقات الداخلية بين طوائفه إلى مشارف حرب أهليّة.

هذه أهداف الخطة بالعيون المنطقية الدقيقة، لكنّ إمكانيات نجاحها تفترض عدم وجود ردود فعل عليها من الداخل اللبناني والقوى الإقليمية والدولية الداعمة له. كما تلحظ انبثاق تواطؤات مؤيّدة لها من قوى داخلية، يرجّح خبراء أن يكون تهديد حزب القوات اللبنانية باستقالة وزرائه أوّل حركاتها.

ماذا تريد واشنطن من هذه الخطّة؟ تندرج ضمن الصراع الأميركي الإيراني في منطقة «الشرق الأوسط».. هذا الصراع الذي تؤدّي فيه السعودية رأس الحربة العربية الرافضة للدور الإيراني، بذريعة أنّ طهران ترسل ميليشياتها إلى العراق وسورية وتهدّد الأمن العربي. وهنا، تتناسى السعودية أنّ شاه إيران كان يؤدّي دور شرطي الخليج متدخّلاً في دوله كلها، ولم تعترض عليه الرياض ولو مرة واحدة، لأنّ تدخّلاته كانت جزءاً من السياسات الأميركية و «الإسرائيلية». ما يؤكّد على أنّ الصراع أميركي إيراني، تلعب الرياض في إطاره ومع حلفائها دور أدوات أميركية وليس أكثر.

أمّا أسباب هذا الصراع، فتتعلّق بمقاومة الإيرانيين للنفوذ الأميركي في العالم الإسلامي و»الشرق الأوسط» وقيادتها للصراع ضدّ «إسرائيل»، مع تقديمها نموذجاً إسلامياً مختلفاً عن نموذج الانصياع السعودي نحو الغرب.

لقد تمكّنت طهران بهذا المنطق من بناء تحالفات عميقة مع معظم شعوب المنطقة من آسيا الوسطى إلى لبنان على حساب تراجع النفوذ الأميركي، من دون أن ننسى أنّ انخراط الإيرانيين في الدفاع عن الدولة السوريّة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وتوفير ظروف الصعود للدور الروسي والصيني والمقاومة ضدّ «إسرائيل». وبما أنّ حزب الله هو الحليف العربي الأوّل والأساسي للدور الإيراني في المنطقة، وهو المنظّمة التي تستلهمها حركات المقاومة في المنطقة من اليمن إلى سورية ومصر، فكان طبيعياً أن تستهدفه السياسة الأميركية. أليس حزب الله هو الذي حرّر لبنان في 2000 منتصراً على الغزو «الإسرائيلي» في 2006، وضارباً الإرهاب التكفيري في سورية ولبنان بين 2013 و2017؟ ومقدّماً مدرّبين ومستشارين ومقاومين لليمن والعراق وبلدان أخرى؟ وداعماً كلّ الحركات المناهضة لـ «إسرائيل» والإرهاب؟!

ولأنّ العقوبات الأميركية على إيران لم تؤتِ أُكُلها كما اشتهى الأميركي، رأت واشنطن في ضرب حزب الله إلغاءً للنفوذ الإيراني في العالم العربي، وخصوصاً جناحه المشرقي. واعتبرت أنّ عرقلته في عرينه اللبناني كافية لإجهاض دوره في سورية والجوار. وهذا يستلزم برأيها إحداث فتنة بين الدولة اللبنانية صاحبة السيادة، وبين حزب منتهك للسيادة، كما يزعم البيت الأبيض ورعاياه العرب، لأنّه ينشر قوات عسكرية في مختلف أنحاء البلاد، ويستعمل حدودها الشرقيّة لتدخّلاته في الإقليم من سورية إلى اليمن.

وتتواكب هذه الإجراءات مع اعتبار نوّاب حزب الله ووزرائه من الفئة المرتبطة بالإرهاب، ما يجعل من الصعب الاستمرار في حكومة فيها وزراء إرهابيون كما تزعم واشنطن، ومجلس نوّاب فيه نوّاب إرهابيون أيضاً، فيتعطّل لبنان الحكومي داخلياً وخارجياً. إذ كيف يمكن لدولة غربية وخليجية أن تستقبل مسؤولين لبنانيين تضعهم واشنطن على لائحة الإرهاب… وينتمون إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية؟!

كما يدفع البيت الأبيض بعلاقاته بالقوى السياسية اللبنانية المرتبطة بالسعودية إلى خلق حالة عداء بين القوى الداخلية المرتبطة بالسعودية و «إسرائيل»، وبين حزب الله وحلفائه، ما قد ينقل هذا الصراع إلى الشارع.

وهناك أيضاً عقوبات اقتصادية أميركية قد تدمّر الاقتصاد اللبناني، لأنّها تتعامل بالشبهة والرَّيب على كلّ مَن يرى ترامب أنّه نصير أو موالٍ لحزب الله ومن كلّ الطوائف. ويمكنه إلغاء الأدوار الاقتصادية للجمعيات والصناديق والمصارف والحسابات التي يرتاب بها، وينطبق الأمر على رجال الأعمال ومن الجنسيات كلها الذين يستشبه فريق ترامب بأيّ دور لهم مع حزب الله في العالم بأسره. فلو أنّ شركة صينية أو روسية قامت بتعبيد طريق في الضاحية الجنوبية، فإنّ عقوبات ترامب تصيبها باتهامها أنّها تساعد حزب الله على سرعة الانتقال، وتضعها بالتالي تحت نار العقوبات.

فكيف يمكن تخيّل وجود قرارات أميركية تفرض استعماراً اقتصادياً على لبنان بمعونة أحزاب القوات اللبنانية والمستقبل والكتائب، وأطراف أخرى لا تزال ترقص على الحبال أو تعتصم بصمتٍ مريب.

كما أنّ العقوبات الأميركية تشمل المغتربين اللبنانيين وتتّجه إلى الضغط على بلدان في الخليج وأفريقيا والأميركيّتين لتوفير «ذرائع مختلفة» لطرد «الشيعة» منها، خصوصاً الذين يتعاطفون معه من أبناء الطوائف الأخرى عموماً، والهدف بالطبع خلق آليّات ضغط اجتماعية تؤدّي إلى تراجع شعبيّة الحزب في «لبنان».

فهل ترضخ الدولة اللبنانية إلى مفاعيل هذه الخطة التي قد تدفع نحو احتراب داخليّ وانهيار حكوميّ، لا يعرف أحد عواقبهما؟ خصوصاً أنّ «التحمية الأميركية داخلياً» بدأت تظهر في فريق حزب القوات وبعض أجنحة المستقبل والكتائب ووسائل الإعلام المؤيّدة للخطة الأميركية «الإسرائيلية»، التي بدأت بإعداد برامج للشحن الداخلي وتوفير بيئة للخلافات الطائفية!

هنا، يجوز التساؤل عن طبيعة الدفاعات التي تمتلكها الدولة اللبنانية للذوْد عن البلاد؟

تستطيع بداية أن تعتبر أنّ القرارات الأميركية غير ملزمة، لأنّها لم تصدر عن مجلس الأمن الدولي، كما أنّ بإمكان الرئيس عون الاحتماء بعلاقاته «الودودة» مع فرنسا، وبالتالي الاتحاد الأوروبي، للضغط على الأميركيين باتجاه استيعاب سمومهم، وذلك على قاعدة الاستمرار في التفريق بين الجناحَيْن السياسي والعسكري في حزب الله، وإمكانية اعتبار دوره الإقليمي غير لبناني المنبع، لأنّه أصبح أصلاً متجذّراً هناك. وهذا يستتبع تأييداً روسياً وصينياً وهندياً ومختلفاً، ويساهم بدوره في الضغط على تيارات أميركية معتدلة قد تنجح في لجم جنون ترامب.

وبوسع الدولة منع تفكّك الداخل بمقاومة محاولة التفتيت بأساليب سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية، لذلك فإنّ أيّ قوة تريد الاستقالة فلتذهب غير مأسوف عليها، لأنّها لا تشكّل جزءاً من النصاب الأساسي للقوى. يكفي أنّ التيّار الوطني الحر ومعه البطريركية المارونية، ومئات القوى والشخصيات السياسية المسيحية، يتمسّكون بالدولة فتسقط الخطة لصالح الاعتدال المسيحي المؤيّد لاستمرار الدولة، بالإضافة إلى أنّ بابا روما يؤيد استمرار الدور المسيحي اللبناني أساساً في نشر الثقة عند المسيحيين العرب. وهذا غير ممكن إلا بوجود دولة لبنانية رئيسها مسيحي. أمّا الجزء الثاني من الخطة الذي يتعلّق بحرب «إسرائيلية» محتملة على لبنان أو سورية بدعم سعودي، فهذه مسألة إقليمية ودولية تخرج عن إمكانات الدولة اللبنانية، وترتبط بالتحالف الروسي الإيراني القادر على التعامل مع هذا الجزء بيسر. كما أنّ أياديَ حزب الله وحلفائه قوية في هذا المجال بما يكفي للتعامل العنيف مع الاحتمال وبأنواع الأسلحة كافة. وللإشارة، فإنّ الجيش السوري أصبح على مشارف الوصول إلى حدوده مع العراق ليلتقي بالجيش العراقي والحشد الشعبي، اللذين بدآ رحلة «الحجّ» نحو الحدود مع سورية في مدينة القائم.

وهذا يؤكّد أنّ واشنطن تستعمل لبنان مجرد أداة لعرقلة الحزب في أدواره العربية، ولا تأبه باستقرار لبنان، لأنّها تهيّئه ليكون في خدمة المشروع الذي لا يزال مصرّاً على تهجير المسيحيين من سورية ولبنان إلى بلدان أوروبية مقابل توطين الفلسطينيين والنازحين السوريين فيهما. وهذا يؤدّي إلى إلغاء القضية الفلسطينية وإنهاء التحالفات الإيرانية، وإبقاء العرب في قلب القرون الوسطى عند دولة ابن سلمان ووالده.

إنّ إمكانات الحلف السوري الإيراني الروسي وحزب الله كفيلة بالانتصار على هذا المشروع المُراد منه أيضاً إعادة تأجيج الفتنة السنّية الشيعية، و»تشريج» الدور الأميركي الذي خسر الكثير من قوة «الشحن» لديه. فلننتظر الحرب الأميركية على لبنان، وحرب لبنان للدفاع عن نفسه، وجهاد حزب الله لنصرة العرب بأجمعهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى