الشاعر فاروق شويخ: هل لدينا نقّاد يعملون على النصوص منهجياً… أم يكتفي بعضهم بنقل النظريات المترجمة واستعراضها؟
رنا صادق
صريح، جامح ومستقلّ. شاعر من الصفّ الأول، لا تغشّه المظاهر الجمالية أو تغريه الحقائق المبطّنة، والأكاذيب الملّحفة. بل هو واقعيّ، لا ينساق في جرف الانحدار الشعري الحاصل، أو النثري على حدّ سواء.
فاروق شويخ، من مواليد قرية المنصوري قضاء صور، حاصل على ماجستير في اللغة العربية، يعمل في حقل التربية والتعليم.
أقل ما يمكن قوله إنّه حقيقي في زمن الغشاوات، وقويّ في عصر باتت الشجاعة تذكر في كتب الملاحم البطولية التاريخية. يكون الطفل حين يسترسل الكتابة شعراً، وناقداً حين يلفّ قلمه للكتابة النثرية. مخيفة تلك الشخصية للذين يجهلونها، كمٌّ من الثقافة والمعرفة العالية بتواضع عجيب، يأسر الحاضرين ببضع كلمات، والحديث عن سماته قد يطول.
«البناء» التقت الشاعر فاروق شويخ، وكان معه هذا الحوار الشيّق:
يقول عن علاقته بالكتابة: هي الحياة الاستثنائية، والواقع الحقيقي أشتهيه إنّما متخيَّلاً. لا أراه إلا على مائدة المجاز وتحت سقف اللغة. هكذا كنت أشعر في بداياتي إن أول عهدي بالكتابة كان عبارةً عن شغب لغوي، أهدف من ورائه إلى بناء جسر بين ما كنت فيه وما كنت أرغب أن أكونه، لأنني كنت أؤمن أنّ الفنّ عموماً، والكتابة خصوصاً لا جدوى منهما إن لم يكونا بساطاَ طائراً للأحلام يبتلع المساحات الموجعة.
في رصيده ستة كتب: أربعة دواوين شعرية، وكتاب نثر، وآخر سيرة والشعر بالنسبة إليه يحتمل اقتراحات خيالية وتأويلية أكثر من النثر، رغم أن القيود كثيرة ويعني بذلك تلك القيود وهواجس التجاوز وكسر المتتاليات الدلالية والنحوية التي رضعناها مقدسةً كحليب الأمهات من الكتب. في النثر يرى أن ثمّة حرّيات أوسع، ومدى أكثر للتحرّك عبر اللغة وقواعدها.
«مقامات ورقِية» الصادر عام 2004، هو كتاب شويخ المفضّل لأنه يحمل عفوية الرؤية وبراءتها، واتقاد الحماسة في الكتابة.
تجربة «شيخ القرى» تتميز عن تجربة «أجنحة البيوت» بأنها، تجربتان مختلفتان. فكتاب «شيخ القرى» يتكلم عن سيرة أحد رجال الدين الذين تأثر بهم شويخ في جبل عامل، بلغته ولغة من عرفوه وعايشوه من كبار رجال العلم والدين في لبنان. في هذا الكتاب الكثير من الصدق والعاطفة وصورة عن الواقع المفقود اليوم. أما كتاب «أجنحة البيوت» فهو عبارة عن نصوص أدبية إبداعية تحمل رؤيته الخاصة لظواهر وجودية ومظاهر حياتية بحسب ما يشير إلى «البناء».
ينتمي الشاعر إلى مدرسة شعرية رؤيوية. تمتدّ من التأثّر بالتراث الأدبي العالمي لا سيما العربي، وصولاً إلى المدرسة الشعرية الجديدة التي تهدف إلى صناعة علاقة جديدة وخاصة مع الأشياء، بلغة جديدة قائمة على الثقافة وصناعة الرؤية الخاصة بصاحبها. هذا إلى جانب السعي إلى كتابة النّصّ التجريبي دائماً.
وعن سؤاله ما إن كانت مقوّمات الكتابة اليوم هي ذاتها مقومات الكاتب البديهية المعروفة سالفاً، قال: أعتقد أنّ المقومات البديهية للكتابة هي امتلاك أدواتها بشكل كبير ومتقن، بطريقة لا تؤثر في إحداث خللٍ ما في مسار الكاتب الأدبي ورؤاه الفنية. لكنْ برأيي على الشاعر التنبُّه إلى ضرورة امتلاك رؤية خاصة إلى الكون لا تشبه سواها. هذا فضلاً عن التسلُّح بثقافة عامة إضافة إلى ثقافة الاختصاص، مقرونة برغبة جامحة في التجديد.
يتأثر الشعر بالعموم بالذات الإنسانية والحب والسلام، ويرى شويخ في هذا المضمار أنّ قبل أن يعتقد القرّاء أن الشاعر مصلح بشري، لا بدّ من الإشارة إلى أنه بحاجة إلى ما يحتاجه الآخرون. يمكن القول إنّ الشعر بمقدوره التأثير في القارئ وفي القيم التي تذكرينها جميعاً، وذلك عبر إثارة صدمات وجرعات في الكتابة تدعو المتلقي إلى التنبُّه هذا التنبُّه يستدعي تقويماً وانتباهاً من القارئ لخللٍ ما يصيب واقعاً معتلاً، انطلاقاً من أنّ الشاعر صاحب سطوة وسلطة رؤية خاصة.
يدخل شويخ إلى القصيدة عبر الشغب اللغوي المراوغ عند المناورة الكتابية الأولى. ولا يكتمل عقد الكتابة من دون وجود النزق العقلي وهو الدافع المنطقي للكتابة. وما يدعوه إلى الكتابة برأيه هو ما يسمّى بالحالة الشعرية المحض. ولا علاقة حقيقية بمؤثرات نفسية أو عاطفية عابرة بموضوع الكتابة. يمكن لحالة وجدانية ما أن تبعث على الكتابة في حالة ارتباطها بفكرة وجودية مفصلية تستدعي توظيفاً إبداعياً للوثائق التاريخية عبر ما يسمّى بالإسقاط في نصّ إبداعي. التذرّع للكتابة العابرة بظروف طارئة أمرٌ مراوغ ويوقّع في السطحية والاستسهال بحيث لا يمكن لإنسان أن يصبح «مبدعاً» إذا فقد أخاهُ شهيداً أو والدته أو فارقته حبيبته… إذا لم يقع العقل الكاتب تحت وطأة إلحاح فكريّ لا يمكن ارتكاب الفعل الإبداعي.
في ما يخصّ موضوع الحداثة الشعرية، يحاول أن يعيشها في مختلف نواحي التفكير والتعامل العقلي في ميادين العمل الفكري جميعِها. أما بالنسبة إلى شكل القصيدة، فإنّ طغياناً محقاً لقصيدة النثر يفرض نفسه بقوة، من جهة فرادته في تناول أمور حياتية وإن كانت بسيطة ويومية، لكنها تخدم التجديد الإبداعي بشكّل قوي. هذا لا يعني عدم وجود تجارب هزيلة وجوفاء في مضمار قصيدة النثر. ويرى شويخ أنّ تمّ اللجوء إلى كتابة قصيدة النثر من ثلاثة طريق: أولها عن طريق شعراء جادّين لديهم رؤية ورغبة جامحة في الكتابة والتجديد. الطريق الثانية، سلكه مستسهلو قصيدة النثر، لغموض شروطها وانتفائها تقريباً. والطريق الثالث: سلكه الراغبون بكتابة الشعر وعديمو الموهبة الذين لجأوا إلى قصيدة النثر لجهلهم بقصيدة الوزن، وما خدمهم تراجع الشعر الموزون لناحية ضمور قوة الرؤية الشعرية إلى حدّ كبير، وخمول السّعي الجاد إلى خلخلة المتتاليات الشعرية والعروضية… التي نهشت مواهب شابة بأنياب التقليد والاجترار، وأوقعت الكثير من الضحايا في كمائن الكتابة التي يسهل الاصطياد بواسطتها.
ينظر إلى جدلية النقد والكتابة على أنها جدلية كبير ة وشائكة تستلزم طرح أسئلة على أسئلتك لا الإجابة عليها: هل ثمة إبداع شعري حقيقي في العالم العربي؟ هل لدينا نقّاد يعملون على النصوص منهجياً، أم يكتفي بعضهم بنقل النظريات المترجمة واستعراضها؟ كان الفكر البشري في القرنين الماضيين على الأقل يؤثر في مجريات الحكم ونظرياته، وأحياناً كثيرة تستلهم نظريات نقدية أدبية أفكار رجال سياسة ومناهجهم في فهم بنية الدولة والمجتمع وتفسير الواقع والفكر…
ويتابع: طبقاً لمتابعتي، أرى تراجعاً وانهزاماً نقدياً في العالم العربي، وقد أستثني بضع دول يعمل نقادها أو مؤسساتها بشكل فردي، أرى أنّ فيها إنتاجاً في الفكر النقدي وحركة في هذا المضمار.
عند الكتابة ينحاز شويخ حالياً إلى صوت الطفل داخلي، وهذا واضح جداً في ديوانه الأخير. وانطلاقاً من كونه شديد التعلّق والتجذّر بمطارح الطفولة والصبا، لا يزال لهذه الفترة الغنية الكثير في عملية الإلهام والتأثير.
وأضاف: لطالما كنت مأخوذاً بقول لبودلير: «العبقرية هي الطفولة المستعادة قصداً»، حيث يقصد بودلير أننا باستعادتنا الطفولةَ نستعيد حواسها وبراءتها واتقادَ رؤيتها، وأدوات أخرى بمقدورنا عبرها تحقيق فرادة ما.
وعن رؤيته الشعرية المستقبلية، يقول: رؤيتي الشعرية، إذا جاز نعتي بهذه التهمة، تتلخص في كتاب أنجزه وهو أطروحة الدكتوراه في الأدب العربي، وفيه أعالج «الرؤية إلى العالم» وهي الناحية التي إن وعى لها الشعراء تقود ثقافتهم وكتابتهم إلى أمور ذات جدوى.