صراع على رسم معادلات الأمن والردع في شرق المتوسط

سومر صالح

امتلاك المزيد من القوة هو أفضل علاج لردع الخصم، والاستعداد للمعركة يمنع قيامها، عاملان يشكلان جوهر نظرية الردع في العلاقات الدولية، ولكن على الرغم من أنّ سياسة الردع هي وسيلة لتجنّب الصراع إلا أنها قد تشكل بحدّ ذاتها عاملاً من عوامل الصراع، لا سيما إذا بدأت بالاختلال لصالح طرف ما قد يبدأ الطرف المقابل بصراع قبل أن تتوسّع هذه الفجوة.

هذه المقدمة البسيطة تصبح ضرورية لفهم مجريات أحداث شرق المتوسط انطلاقاً من نظريتي الأمن والردع لكافة دوله وكياناته، فهذا الشرق لا يشبه الماضي إلا قليلاً، فكلّ شيء تبدّل في بناه التحتية والقادم من الأيام سيشهد تبدّلاً في بناه الفوقية، وأقصد هنا تحديداً شكل التحالفات الناظمة لتوازناته، فحتى تاريخ اندلاع الحرب على سورية كان هذا الشرق الأوسط مقسوماً استراتيجياً على اثنين: محور المقاومة ومحور الاعتدال والميزان كان شكل العلاقة مع العدو الصهيوني صراعاً أم «تقارباً وتطبيعاً»، أما اليوم فالشرق الأوسط منقسم جغرافيا على اثنين: الشرق الأوسط القديم منقوصاً منه شرق المتوسط، وكلّ جزء منهما له تحالفات مختلفة وتوازنات مخصصة، وما يميّز راهنية التحالفات في الشرق الأوسط أمران: الأول أنّ قطبي الصراع الدولي حاضران بجيوشهما في هذا الشرق، والأمر الثاني: أنّ القوى الإقليمية باتت من القوة ما لا يستطيع قطبا الصراع الدولي إخضاعه حتى لو اتفقا على ذلك، فالأحجام الدولية اصطدمت بالأثقال الإقليمية عندما اصطفوا على ميدان واحد، عاملان غيّرا قواعد بناء أسس التوازن والردع والأمن، وعقّدا منظومات الأمن والتوازن في شرق المتوسط على إثر حدثين مهمين: الأول هزيمة داعش السريعة والتي أربكت حلف واشنطن الذي صرّح مراراً بقدرة التنظيم على البقاء سنوات وبنى نظريته الأمنية واستراتيجيته على هذا الافتراض الذي أسقطته عمليتا الفجر العراقية والفجر الكبرى السورية للقضاء على تنظيم داعش الإرهابي التي بدأت منتصف العام الحالي، مما ولد في المفهوم الأميركي فراغاً جيوسياسياً/ أمنياً في نظريتها الأمنية، والعامل الثاني والذي أعتبره نتيجة للعامل الأول هو إجراء استفتاء كردستان العراق بدعم أميركي متعدّد الأهداف، والذي وضع الأمن القومي لجميع الدول المحاذية للإقليم في خطر.

تفاعلت الأحداث والتطورات وخلقت مناخاً من «اللايقين» يسود علاقات الجميع بالجميع حتى بين الحلفاء أنفسهم في مجموعات الصراع المتنافرة، ولوهلة بدأت المصالح الأمنية الخاصة للدول والكيانات تهدّد طبيعة التحالفات وصيغها الراهنة، لا سيما مع غموض في موقف قطبي الصراع من استفتاء كردستان ومرحلة ما بعد داعش، هذا اللايقين بحدّ ذاته حوّل اتفاقيات وتفاهمات جميع الأطراف من طبيعتها السياسية إلى طبيعة أمنية وردعية خاصة وشديدة الدقة، وبدأ هذا اللايقين بإعادة صياغة هذه الاتفاقيات من منظور أمني بحت وليس من منظور سياسي مرحلي، وما كان مقبولاً في بدء التفاهمات أصبح بفعل التطورات اللاحقة غير مقبول، وهذه الوضعية هي باتجاهين الأول بين الأطراف المتصارعة كتفاهم خط منع التصادم على طرفي الفرات 28/6/2017 واتفاق هامبورغ 7/7/2017 بين الولايات المتحدة وروسيا، وبين الأطراف المتفاهمة، كتفاهمات الولايات المتحدة مع كرد المنطقة، وتفاهمات مسار أستانة 30/12/2016 المتعدّدة الأطراف، وبدء بعض الأطراف وهم من الأطراف التي حاربت الدولة السورية برسم معادلة الأمن الخاصة بهم على حساب الجميع محاولين الاستفادة القصوى من التفاهمات الموجودة، فتركيا وتحت غطاء مسار أستانة بدأت بالتحضير لعملية أمنية وعسكرية تستهدف كردّ عفرين أساساً وتكريس كيان درع الفرات جيو سياسياً ثانياً. والعدو الصهيوني بدأ باستغلال تفاهمات هامبورغ على حدّ زعمه – ليشنّ ضرباته بذريعة تلك التفاهمات، والولايات المتحدة بدأت باستهداف القوات السورية المتقدّمة شرق النهر شماله بذريعة تفاهم خط منع التصادم الروسي الأميركي، ولكلّ هواجسه، فالأميركي الذي خلق داعش ليغيّر الشرق الأوسط انتهى بمشروعه إلى أنّ ايران القوية المنتصرة باتفاق 14/7/2015 باتت قوة إقليمية شرعية في مواجهة الإرهاب بل ومنتصرة عليه، والعدو الصهيوني الذي دعم مجموعات «القاعدة» في منطقة «فكّ الاشتباك» ومنطقة جنوب غرب سورية بات عليه أن يحسب العدة من الجولان إلى البحر في أيّ مواجهة محتملة مع المقاومة اللبنانية، وتركيا الخائبة في حبّها لواشنطن أصبح كردها يعيشيون حلم الدولة وباتت حكومة نظام أردوغان تخشى تقسيم تركيا بعد أن عملت كلّ ما باستطاعتها لتقسيم سورية وفشلت، وأمام هذه المشهد برزت في شرق المتوسط ثلاث محاولات لترسيم أحادي لمنطق التوزان والردع والأمن في هذه المنطقة الملتهبة:

ـ المحاولة الأولى تركية لفرض عملية عسكرية في إدلب وريف حلب الجنوبي الغربي.

ـ المحاولة الثانية من العدو الصهيوني عبر اعتداء متكرّر على الأراضي السورية وانتهاك متكرّر للأجواء السورية.

ـ المحاولة الثالثة هي من واشنطن لعرقلة أيّ تقدّم للجيش السوري شمال النهر. وبدا جلياً للجميع حجم التنسيق الثلاثي الكردي الأميركي الداعشي في مواجهة تقدّم القوات السورية وقواتها الرديفة.

وفي خضمّ هذه الأحداث حاولت موسكو لعب دور الموازن لجميع الأطراف وأبدت تفهّماً مبالغاً به بتقديري – للمصالح الأمنية ـ لـ تركيا والعدو الإسرائيلي والولايات المتحدة ، محاولة رفع شعار التعاون في محاربة الإرهاب كمقدّمة للاستقرار في شرق المتوسط، ورغم نواياها الصادقة في إحلال السلام في هذا الشرق ورغبتها في القضاء على الإرهاب، إلا أنّ واقع الصراع وتاريخه وطبيعته لن تسمح لجهودها بالنجاح ونظرية الأمن الجماعي الذي طرحها لافروف في العام 2015 تبدو طموحة وطوباوية أمام مشهد العلاقات الصراعية المتأزم، وبعد سلسلة مساع روسية بدأها الرئيس بوتين من تركيا واستكملت بزيارة شويغو للأراضي المحتلة وسلسلة اتصالات أميركية روسية بدا أنّ مساعي روسيا قد تصطدم بصخور التعنّت التركي والغطرسة الصهيونية، فبدأ محور المقاومة برسم معادلة الردع مباشرة موازاة مع جهود حليفه الروسي في مكافحة الإرهاب لتدوير زوايا الصراعات، فصدر بيان من الخارجية السورية يعتبر عملية النظام التركي على إدلب عدواناً على دولة ذات سيادة وليس بغطاء أستانة 16/9/2017 ، والعدوان يستدعي الردّ بكلّ تأكيد، وفي جبهة صراع أخرى اعترضت صواريخ الدفاع الجوي السوري طائرات العدو قادمة من أجواء لبنان باتجاه الأراضي السورية 16/10/2017 ، كاسرة لغطرسة العدو ومبدية استعداد القيادة السورية لجميع الاحتمالات، وكانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد أعلنت 24/9/2017 أنّ طائراتها المسيّرة دكت جماعات داعش الإرهابية في البادية السورية ودمّرت قسماً منها في تطور بالغ الأهمية، واستكملت معادلة الردع بتوقيع مذكرة تفاهم مشترك حول تطوير التعاون والتنسيق بين سورية وايران 21/10/2017 وذلك في ختام زيارة رئيس الأركان الإيراني باقري إلى سورية والتي زار فيها خطوط التماس على جبهات حلب في رسالة وصلت إلى أنقرة وواشنطن سريعاً، ليكتمل مشهد الردع السوري الإيراني بشكل واضح في معادلة تقوم على مواجهة «إسرائيل والإرهاب» معاً كعنوان للمرحلة المقبلة ضمن إطار رسمته الدفاعات الجوية السورية فوق لبنان، فأيّ عدوان على «حزب الله» يعني أنّ الحلف كامل في معركة واحدة، والقادم من الأيام سيحمل ترجمة عملية واضحة لقواعد الاشتباك الجديدة في معارك وادي الفرات في مواجهة ثلاثي الشرّ «قسد» و«داعش» والولايات المتحدة ، و«أستانه 7» القادم سيكون حاسماً لردع تركيا، فإيران هي شريك تركيا الوحيد حالياً في مواجهة المشروع الكردي الانفصالي، وأيّ عدوان تركي على سورية يعني أنّ تركيا ستفقد شريكاً مهماً في هذه المواجهة المصيرية مما قد يدفع خصوم أردوغان إلى تقوية كرد تركيا وفي مقدّمهم السعودية حليف واشنطن في مشروع كرد الشرق الأوسط وخصم إيران في المنطقة، وبالتالي أردوغان لن يغامر بخسارة رادع السعودية في أزمات المنطقة – على الأقلّ حالياً -.

جملة الأحداث السابقة تقودنا إلى نتيجة مفادها لا خطوط حمر لأحد على حساب السيادة السورية ولا اعتبار لأيّ نظريات أمنية تتعدّى على مفهوم السيادة السورية وحقها في استرجاع كامل أراضيها من دَنسي الإرهاب والمحتلّ، ولكن بذات الوقت تبقى الأعين شاخصة إلى العراق الذي أُريدَ له أن يرتمي في أحضان بني سعود لمواجهة إيران وعمق سورية والمقاومة، وتبدو المرحلة القادمة صعبة وحساسة بانتظار خيارات الشعب العراقي وحكومته لترتسم معادلات التوازن الإقليمي بصورة مشهد مكتمل في الشرق الأوسط.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى