فقط في لبنان

د.رائد المصري

فقط في لبنان شبْهُ دولة، مشوَّهة، وممسوخة، فالحديث عن واقعٍ أليم ولوْ كان مريراً وصعباً، لكنَّه يُلامس ولو بالحدِّ الأدنى بداية طريق الصواب، إذا أراد أبناؤه السَّير فيه. فالمقاربة تكون بالقبول الأوَّلي من حيث الشَّكل ثم بالانتقال الى مضامين التشويهات الخُلقية غير المألوفة في أعراف بناء الدول، لكن لا بدَّ من تعدادها…

في لبنان تركيبة طائفية مذهبية سابقة بوجودها وجود الدولة، وبالتالي مستحكمة بمصير الشعب بناءً على العصبويات المتكتِّلة منذ ما يزيد على المئتي عام سالفة، وفي لبنان استبداد مقنَّع بالقناع الطائفي يستحيل عليك أن تتحرَّر منه أو تسعى للتحرّر منه، فينفرط عقد المجتمع وتتطاحن الهويات الطائفية في ما بينها.

في لبنان فساد منظَّم تحميه العصبيات الطائفية المذهبية ولو كان اللبنانيون يعيشون أو يظنون أنَّهم على طريق المدنية السياسية، أو في عقد سياسيٍّ اجتماعي يُتيح للمرء ممارسة خياراته، لكنَّه محكوم لسلطة الرُّيوع الطوائفية ومحسوبياتها المتجمِّعة في مزارع مذهبية والمتربِّصة بإبن الوطن والجار والشقيق والأخ المواطن لتطحنه ساعة تدقُّ حقيقة الاستنفار الإلغائية وأجراسها في المشرق العربي، كما حصل منذ عام 2005 ومنذ عام 2011…

في لبنان سرقات المال العام ومقدرات الدولة أو التي يسمُّونها دولة، لكنّها مقيَّدة باسم الدين والطائفة والمذهب وتُدار تجمعاتها الاقتصادية لتعود بخيراتها لزبائن الطائفة وقاطعي الطرق العامة ومنتحلي صفة المدنية والعيش المتحضِّر، لكن بأسلوب القروسطية وزيادة عنها…

في لبنان تعدِّيات على الأملاك العامة والأراضي والأرصفة وعلى المشاعات وعلى الطرقات العامة، والناس تعيش في حالة جنون الاستحواذ والسرقات والاستعارة، متمترسين ومستندين تارة الى شعارات السيادة والحرية، وطوراً لحب القضية وفلسطين، وثالثة كرمى للتضحيات وللموقف الوطني الخالص، وكلُّها مساهمات تدلُّنا على الوجه المشوَّه لهذا الوطن الذي بات مخيفاً ومرعباً…

في لبنان سرقاتٌ المال العام وتزوير الأراضي عبر المسْح العقاري، ومن قبل كلِّ القيِّمين على السلطات العامة والمُوْلجين الحفاظ عليها، وفيه سرقات لمصادر الطاقة ولبواخر الكهرباء وتلزيماتها، ولشركات النفايات وسماسرتها، ولتنفيعات تلزيم الطرقات والبنى التحتية ومافياتها، ولشركات الاتصالات وكابلاتها وجنون رجالاتها المخفيين وتوظيفاتها، وشركات الدواء وتجارها القاتلين والمتلاعبين بحيوات الناس وبمستقبلهم المريض أصلاً، إنه جنون العصر اللبناني في كلِّ شيء، ولا أحد يقف بوجهه للتخفيف من حدَّته ولو ظرفياً…

في لبنان تشريعٌ للعمالة وقوننة لها، لا نقصد هنا عمالة الأجر التي هي جهد الفرد في كسب رزقه، إنما تشريع العمالة مع العدو الصهيوني. وهي حالة جديدة مستجدَّة تدخل في الأدبيات والصالونات اللبنانية، وتكونُ مسارَ أخذ وردّ وجدل وحوار وقبول ونفي وانقسام وحرية نقاش ورأي ورأي آخر، في مهزلة تعدّدية المواقف المخيِّبة الآمال.

لا يستطيع المحلِّل والمراقب والمتابع في لبنان إلاَّ أن يفشلَ في مقارباته كلِّها، ولا يستطيع أن يتفاجأ بحجم تفريخ العمالة بوجوه سياسية جديدة وخطابات متْقنة التوزيع، مقارنة بحجم الفساد والترهُّل والمحسوبيات والسرقات والنهب المنظَّم وقتل الناس. فهي مسارات متكاملة ومتراكمة منذ عصور وحكماً هي مسارات تدكُّ أعتى الأوطان وأقواها. فكيف بوطن مسخٍ مهجَّن يحكُمه جنون وتفلُّت الحريات والرايات واللافتات الكاذبة والشعارات المزيَّفة من أجل الاستنزاف لملء الصحون والبطون الطائفية…

وطنٌ مزيَّف بتلاوين سياسية غامقة الألوان ومُبهِرة، تصيبك بعمى التمييز بينها، وطنٌ أراده المُستعمِر الصهيوني قاعدة متقدّمة لسياساته، وظهيراً وسنداً عنصريّاً لدولة الاحتلال، فمهما تصنَّعوا بالوطنية وتزيَّنوا بفولكلورهم الكريهِ المتكرِّر والممجوج، فلن يصبح وطناًز ومهما رفعوا من شأن الفاسدين والمرتشين والمرتهَنين ومهما قلَبوا التاريخ وحقائقه رأساً على عقب، فلن يجعل من كيان لبنان وطناً، لأنَّ التساهل مع العملاء خفَّف من حالة العداء للكيان الصهيوني في الثقافة السياسيّة أولاً وقوَّى من نَزَعَات الخطاب الانعزالي الجديد.

حقيقة نقولها ولو كانت صعبة، لقد نجحَ المطبِّعون في لبنان مع «إسرائيل» في تمرير وتكريس ثقافة التطبيع والمجاهرة بالصهيونيّة، متَّخذين من حريّة التعبير شعاراً براقاً لهم. وهي ميزة عجيبة في ممارسة الحرية قد لا تجدها في أيّ دولة في العالم إلاَّ في الدولة المشوَّهة.

إنّ فريق المقاومة ومعه الفريق السياسي لقوى 8 آذار هو المسؤول عن حالة الفوضى والتسهيل في موضوع التعامل مع الاحتلال «الإسرائيلي»، منذ اندحاره عام 2000 عن معظم الأراضي اللبنانية. وها نحن اليوم نعيش تداعيات هذه الفوضى وتسهيلاتها التي تمهِّد الطريق أمام العدو الصهيوني ساعة يرى أنَّ الظروف نضجت وحان القطاف، كما كان له أيام بشير الجميّل واجتياح لبنان عام 1982…!

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى