روسيا مركز الحجّ الحالي للحكّام الخليجيين غير الراضين عن سياسة باراك أوباما

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

قال نابوليون بونابرات ذات يوم: «إن معرفة جغرافية الدولة تعني معرفة سياستها الخارجية». ولعلّ هذه المأثورة، تصلح لكل زمان ومكان، خصوصاً لدى اندلاع الحروب، الملتهبة ومثلها الباردة.

ويعتقد البعض أنّ سرعة استعادة روسيا مكانتها اقتصادياً ودولياً، ومحافظتها على جزء مهم من ترسانتها النووية الاستراتيجية، ساهم في تعزيز دورها وعودتها إلى الساحة العالمية، من باب الدول الكبرى، التي تمتلك موارد وقدرات وإمكانات تؤهّلها لأن تكون لاعباً جيوستراتيجياً فاعلاً ومؤثراً في العلاقات الدولية ضمن المنظومة العالمية الحالية، من دون الوصول إلى حدّ المواجهة مع الولايات المتحدة أو أيّ قوّة كبرى أخرى، إنما مع المحافظة على مصالحها في المدى الجيوسياسي الذي ترتبط فيه هذه المصالح، والدفاع عنها بالقوة إذا لزم الأمر في حال تعرّضت للخطر، وهذا ما جعلها تعيد تقويم استراتيجيتها السياسية والعسكرية، لتتواءم مع عالم اليوم، حيث المنافسة، وصراع مصالح الدول الكبرى يهيمنان على العالم.

لذلك، نسجت روسيا مروحة واسعةً من العلاقات مع دول بدأت بدورها تفرض نفسها على الساحة الدولية، كقوى صاعدة. ومن بين هذه الدول… إيران.

تعود أهمية العلاقات الروسية ـ الإيرانية إلى عاملين رئيسين: التعاون الثنائي في مجال استخدام الطاقة الذرّية في الأغراض السلمية ومساهمة روسيا في بناء مفاعلات إيران النووية. واستثمار ثروات بحر قزوين، واعتبار هذا البحر مغلقاً ومحصوراً بالدول المطلة عليه، وعدم السماح بوجود قوات أجنبية حوله. وهذا يعني أن هناك مجالات متعدّدة للتعاون والتنسيق، ويعطي لعلاقة روسيا بإيران سِمةً استراتيجية، تجعل روسيا تتعامل بهدوء مع الطموحات الإيرانية في امتلاك أسلحة نووية، لا سيما أنها ترى أن إيران لا تعادي جيرانها ولا تهدّدهم، ولديها نظام سياسي مستقرّ وثابت. لذلك، وقفت روسيا ودعمت موقف إيران في قضية ملفها النووي السلمي، ورفضت فرض عقوبات عليها، بهدف عزلها ومنعها من تطوير هذا البرنامج. وساعدها في ذلك مهارة القيادة الإيرانية في إدارة معركتها الدبلوماسية لهذا الملف، وصمودها بقوة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في وجه ضغوط الولايات المتحدة وعدم مهاجمتها حتى الآن. وهذا ما أظهر أنّ الموقف الروسي يتغذّى من الموقف الإيراني، والعكس صحيح، ولكنه لا يصل إلى حدّ قبول روسيا أن ترى جارتها دولة تملك أسلحة نووية، ومن هنا اقترحت روسيا تأسيس مركز إيراني ـ روسي مشترك لتخصيب اليورانيوم على الأراضي الروسية، في محاولة لنزع فتيل أزمة الملف النووي الإيراني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومن خلفها أميركا وأوروبا.

ونشر «مركز الجزيرة للدراسات» منذ حوالى سنة من اليوم، دراسةً تفصيلية ـ إنما غير موضوعية ـ عن العلاقات الروسية ـ الإيرانية. إذ يتوقف قارئ الدراسة فجأةً أمام محطّة هامة من محطات التاريخ الحديث، ألا وهي سيطرة الولايات المتحدة على القرار العالمي. وغفلت الدراسة سقوط هذه الأحادية، وعودة روسيا مع قوى أخرى إلى القرار العالمي، لتكسر هي وهذه القوى أحادية القطب.

ومما جاء في دراسة «مركز الجزيرة للدراسات»: «لا يمكن وصف توافق طهران وموسكو على كثير من الملفات المحورية، بأنه تعبير عن حلف استراتيجي بين روسيا وإيران، فعلى رغم التقاء البلدين على طاولات شراكة سياسية واقتصادية وعسكرية، إلا أنهما تشكلان تحالفاً للضرورة أكثر من أيّ شيء آخر، فأربعة قرون من العداء التاريخي وعشرات السنين من الاختلاف الأيديولوجي لا يمكن أن تصنع شراكة استراتيجية بين أي طرفين، بل شراكة ضرورة فريدة من نوعها في العلاقات الدولية وتبدو هنا أشبه بالدائمة، وهذا لأن مسبّبها الأساس لن يزول في المدى القريب، ألا وهو المتمثل في قيادة الولايات المتحدة الأحادية سفينة النظام الدولي الذي تغيّرت بوصلته بعد الحرب الباردة، وانهيار معادلة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، ناهيك عن عوامل ترصد خلفيات العلاقات الإيرانية ـ الروسية وواقعها ومكوّناتها، وأيّ مستقبل ينتظرها في ظلّ المتغيّرات التي تجتاح المنطقة.

متغيّرات وبصمات

تعصف بالمنطقة متغيّرات متسارعة تؤثر بشكل أو بآخر على معطيات العلاقة الملتبسة بين موسكو وطهران أولها: «الربيع العربي» والأزمة السورية ومآل حلّها إذ وقفت طهران وموسكو إلى جانب النظام السوري في كافة المحافل الدبلوماسية، ولم يسبق للبلدين أن تشاركا موقفاً بهذا التطابق كما فعلا في هذا الملف.

وثانيها: وصول روحاني إلى سدّة الرئاسة الإيرانية، بعد سنوات من النهج المتشدّد لسلفه محمود أحمدي نجاد، والذي شهدت فترتا رئاسته الكثير من المواقف والسياسات التي أدّت إلى توتير العلاقات مع موسكو.

وأخيراً، متغيّر الانفتاح الإيراني والأميركي المحتمل، ومستقبل العلاقات بين إيران ودول الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية. جملة هذه المتغيرات لم تعطِ نتائجها بعد، وقد يطول انتظار حسم بعضها، وهي مترابطة بشكل أو بآخر.

ويبقى السؤال المطروح: إن كانت هذه المتغيّرات ستساهم في إلغاء الحذر التقليدي الذي طالما حكم العلاقات الثنائية بينهما؟ وهنا يمكن تسجيل مجموعة من النقاط:

الموقف الإيراني والروسي المتطابق من الملف السوري، سيعزّز مستقبل العلاقات بين طهران وموسكو فعدم الاستقرار في سورية ووجود مجموعات متشدّدة قد ينتقل مع الوقت إلى روسيا عن طريق الشيشان ومناطق القوقاز الشمالية وهذا ما سيهدد مصالحها هناك ويؤثر سلباً على استخراج 40 مليار برميل من النفط من بحر قزوين.

يتفق الطرفان على أن «الربيع العربي» بدأ ينتج «إسلاميين متطرّفين»، فلا موسكو تفضل شرق أوسط تتجوّل فيه «القاعدة»، ولا طهران تحبّذ سيطرة سلفية متشدّدة.

من غير المتوقع حدوث انفراج كبير وسريع بين حكومة روحاني والغرب، على رغم أن احتمال التقارب غير ملغى لكن هذا بالذات لن يؤثر سلباً على علاقات إيران بموسكو، فهذه الأخيرة لن تنظر إلى الأمر بريبة، والسبب أنّ ما يجمع بين إيران وروسيا اليوم لا يمكن التخلي عنه بسهولة، لا سيما ما يتعلق بالطاقة، والشراكة في سوق الغاز الطبيعي، ووجهات النظر المشتركة والمؤثرة إزاء قضايا المنطقة، ويضاف إلى ذلك نقطة مشتركة مهمة بين الغرب وروسيا، والمتمثلة بعدم التخوّف من دعم طهران النموذج الحالي من المتشدّدين الإسلاميين.

التقارب الإيراني ـ الأميركي، وتبادل رسائل الغزل بينهما قد يريح روسيا ظاهرياً من عبء اضطرارها لعدم توثيق علاقاتها مع طهران، ولكن هناك ما هو أبعد، إذا ما تحاورت واشنطن وطهران، فهذا سينبئ بتحجيم تنامي الدور السياسي للعملاق الروسي في المنطقة، وعلى رغم أن التوقعات بمحادثات أميركية ـ إيرانية قابلة للتحقق ولكنها لن تسفر عن علاقات صداقة تمحو تاريخاً طويلاً من العداوة، ولكن التفاوض ذاته يعني قضّ مضاجع الروس من تأثير واشنطن المباشر على عددٍ من

إيران قوية نووياً أمر غير محبّذ بالنسبة إلى موسكو، فعلى رغم دعم روسيا البرنامج النووي يبقى الأمر ضمن حدود معينة، فإن حصلت إيران على سلاح نووي، هذا يعني أنها ستشكّل تهديداً مستقبلياً على روسيا نفسها.

سيظل مستقبل العلاقات الإيرانية ـ الروسية محكوماً بمحدّداته التقليدية والتي ترسمها علاقة كل من الطرفين بالولايات المتحدة، والمصالح المشتركة بين الجانبين، فضلاً عن معادلات التنافس الإقليمي والدولي، والدور الذي تطمح إيران وروسيا إلى لعبه في النظام الدولي المتصوّر لكل منهما.

ولكن هناك ما ينبئ بتطوّر العلاقات الإيرانية ـ الروسية خلال الفترة المقبلة طالما أنه لا يوجد ما يعكرها، ولكنها كذلك لن تخرج عن حيّز التعاون الاقتصادي المتعلّق بالطاقة والمجال العسكري وحتى المجال النووي.

وفي السياق ذاته، تدل التجربة الإيرانية السابقة خلال الفترات الرئاسية لكل من رفسنجاني وخاتمي وتولّي روحاني مناصب مهمة خلالها، على أنّ إيران ستولي اهتماماً خاصاً لمنطقة وسط آسيا والقوقاز، وتحرص على التعاون مع روسيا، لفتح الآفاق أمام الاقتصاد الإيراني الذي يشكّل العقبة الأبرز أمام حكومة روحاني.

تحليل جيوسياسي هام

ونشرت مدوّنة «Bhadrakumar» تحليلاً على جانب كبير من الأهمية، ويعتبر تحليلاً جيوسياسياً شاملاً، يفنّد العلاقات الروسية مع القوى والدول الإقليمية كإثبات على عمق العلاقات الروسية ـ الإيرانية وجدواها وصوابيتها. وفي ما يلي، ترجمة حرفية لهذا التحليل.

إن الشكوك حول توجّهات سياسة روحاني ـ إيران غير جديرة بالذكر. فالتحالف التقليدي السائد في منطقة الخليج لا يزال يحثّ الخطى نحو الضعف والوهن أكثر من أيّ وقت مضى، وذلك منذ مغادرة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت قمّة يالطا 1945 مع ونستون تشرشل وجوزف ستالين وتوجّههم سرّاً إلى مصر، للقاء الملك السعودي عبد العزيز بن سعود على متن الطراد الأميركية يو أس أس كوينسي في مياه البحيرة المًرّة الكبرى بحيرات المياه المالحة .

مركز حجّ!

أحدث دلالة على ما ذُكر جاء في إعلان الكرملين عن زيارة الملك البحريني حمد بن عيسى آل خليفة إلى «منتجع سوتشي» الروسي الأحد الماضي للقاء الرئيس فلاديمير بوتين ولحضور بطولة العالم في سباق الفورمولا وان على حلبة «سوتشي» الرياضية. والملك البحريني هو صديق للأسرة المالكة في السعودية، إذ إن التدخل العسكري السعودي الوحشي هو الذي أبقاه في سدّة الرئاسة ونجح في إخماد شعلة المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان من قبل الغالبية الشيعية في البلد.

والنقطة البارزة هنا، ما يحصل في الغرب… يبدو أن روسيا هي مركز الحجّ الحالي للحكّام الخليجيين العرب ممن يظهر أنهم غير راضين على سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما والسياسات الأميركية في الشرق الأوسط المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

وينبغي هنا تسليط الضوء على لحظة فارقة يتنامى فيها اتجاه من القادة الخليجيين العرب حيال سياسة حكومة أوباما، وهذا ما كشفت عنه وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون حول استراتيجية الولايات المتحدة في آسيا وتحديداً في مناطق المحيط الهادئ.

فعائلة كلينتون هي العائلة الثانية في تكساس بعد عائلة بوش الموالية للأنظمة العربية الخليجية. وهيلاري كلينتون لم تتوقّع مثل هذا التأثير المدمّر لاستراتيجيتها اللامعة ـ حول فكرة «المحور» ـ على معنويات حلفاء الولايات المتحدة في الخليج.

دول الخليج

سيطر القلق على ديكتاتوريي الخليج من احتمال انسحاب الولايات المتحدة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وتركهم رهينةً لذئاب المنطقة، إذ يبدو أن واشنطن لم تعُد متشبثة ببقاء أنظمتهم القديمة البالية. كانت اللحظة مصيرية ومحورية في استراتيجية الولايات المتحدة المتبعة في الشرق الأوسط، تلك التي تمثلت في حلول «الربيع العربي» والأحداث المرافقة التي جرت في مصر والتي أدّت إلى خلع الرئيس المصري حسني مبارك، والتي هزّت ثقة المستبدّين الخليجيين في حرّاس أنظمتهم الإمبراطوريين، خصوصاً أن واشنطن كانت تضع نفسها دوماً على «المسار الصحيح من التاريخ»، فانخرطت بهدوء في دعم الإخوان المسلمين على أنهم «قوة الحياة» الناشئة في تلك الفترة في الشرق الأوسط.

البترودولار!

وقد أفادت التقارير بأن اعتماد الولايات المتحدة على النفط الخليجي بدأ بالتناقص بشكل حادّ، بعد بدء إنتاج الغاز الصخري في أميركا، ما سيُترجم ـ جيوسياسياً ـ تراجعاً في اهتمامات واشنطن إزاء أوليغارشية البترودولار في المنطقة.

جاءت هذه الأطروحة على جانب كبير من الزيف والخداع، بسبب تورّط الولايات المتحدة مع دول البترودولار، إذ لم تكن فقط مستهلكةً لهذا النفط بل أيضاً مروّجة له في سوق الطاقة العالمية ومصدّرة للتكنولوجيا فضلاً عن إعادة تدوير كامل للبترودولار، الذي شكّل دعامة أساسية للاقتصاد والنظام المصرفي الغربي. غير أن هذه الأطروحة لا تتناسب واستراتيجية «المحور» التي اقترحتها كلينتون في آسيا، والتي يبدو أنها اكتسبت المصداقية اللازمة.

إذا ما اعتبرنا أن سقوط مبارك كان منبّهاً، فإن تردّد الولايات المتحدة لا بدّ أن ينسحب على دول الخليج العربي، واندفاعها في اتجاه «تغيير النظام» في سورية، يعطي مزيداً من الانطباع على أن اهتمام الولايات المتحدة في البقاء في مركز القوة في الشرق الأوسط، هو في تراجع مستمرّ.

ثم ما لبث أن تعاون الأميركيون مع شيعة إيران… ولوضع الإصبع على الجرح، عملت واشنطن مع عُمان، ومع دول مجلس التعاون الخليجي، لتكون بمثابة وسيط لمناقشة شروط المشاركة، مع عدم إطلاع المملكة العربية السعودية على ما يجري من حولها. وبهذا أصبحت أسوأ مخاوف السعودية حقيقة واقعة لا مفرّ منها، فالولايات المتحدة وإيران تعملان على تطبيع علاقاتهما، ما سيُصادر مكانة الرياض كحليف أساسيّ للأميركيين في الشرق الأوسط.

ومن الطبيعي أن نستذكر أن مرحلة ما بعد الحرب الباردة قد أخفت لحظة «الأحادية القطبية» للولايات المتحدة، وفرضت ظهوراً مطّرداً لعالم متعدّد الأقطاب. ويبدو أن القادة العرب قد راقتهم فكرة هذا العالم متعدّد الأقطاب الذي قد يوفر حماية لمصالحهم الأساسية. فأميركا قد تكون الأفضل لكن من المؤكد أنها ليست الوحيدة على الساحة الدولية بعد الآن.

«الربيع العربي»

ومع دخول روسيا، وبدء الحرب في سورية، تفتحت عيون العرب الخليجيين على اختبار قدرة موسكو على الثبات في دعم صديق وحليف قديم علماً أن لروسيا مصالحها الخاصة في سورية أيضاً . وقد وقفت في موقف تناقضي حادّ مع الولايات المتحدة المتردّدة أو غير المهتمّة «علانيةً» في دعم نظام مبارك.

ثانياً، هاجمت موسكو دوماً ـ وعلانيةً ـ «الربيع العربي»، واعتبرت أن إحداث مثل هذ التغييرات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، أمرٌ غير مبرّر. وعلى العكس، فقد وجدت أنه من المريح تماماً لها، أن تتعامل مع الأنظمة الاستبدادية. فموسكو، في الواقع، تزدري مشاريع الولايات المتحدة الديمقراطية في أيّ مكان في العالم.

ثالثاً، تستمرّ روسيا في اعتبار الإخوان المسلمين جماعة إرهابية متطرّفة محظورة، وتصنفها في خانة «تحت المراقبة». ومن الواضح أن الحكام العرب سعيدون بسبب نظرة روسيا إلى الإسلام السياسي على أنه لعنة على العالم في العصر الحديث.

رابعاً، لم تفوّت روسيا فرصة الارتماء في أحضان المجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد سقوط حكم الإخوان في أعقاب انقلاب القاهرة المدعوم من السعودية في تموز الماضي. وقد أثار قيام روسيا بذلك في الوقت المناسب اهتمام المسؤولين السعوديين في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تطالب بنشر فضائل الديمقراطية على ضفاف النيل.

خامساً، أقنعت أزمة أوكرانيا الحكام الخليجيين أنّ روسيا لم تغيّر جيناتها بعد وأنها مستعدّة للمواجهة إذا ما رأت أنّ مصالحها الأساسية في خطر.

سادساً، إن التصدّع العميق في العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا يشكل عامل جذب للعرب، فكلّما ازداد هذا التصدّع اتساعاً، كلما كان ذلك أفضل. وقد يحفّز هذا الواقع واشنطن على إعادة التفكير في تمتين علاقاتها مع حلفائها وبناء نظام قواعد عسكرية أقوى في المنطقة.

وأخيراً، على رغم كلّ المزايدات التي حصلت على مستوى التفاهم الاستراتيجي بين روسيا وإيران والذي سعى اليه البلدان، فإن القادة العرب يدركون تماماً أن هذه العلاقة هي بلا أدنى شك، علاقة معقدة وملتبسة ومتجذرة في الشكوك المتبادلة والخيانات الدنيئة بين القوتين الإقليميتين والضاربة عميقاً في التاريخ الحديث.

عوامل تشابك

هناك الكثير من العوامل التي تدلّل على مدى تشابك العلاقة بين روسيا وإيران، منها: تعاون روسيا مع سياسة الولايات المتحدة الاحتوائية إزاء طهران في السنوات الأخيرة في ما يتعلق بالأزمة النووية امتثالها لنظام العقوبات المفوض ضدّ إيران من قبل الولايات المتحدة نفور النخبة الروسية من إيران وتداخل مصالح إيران وروسيا في القوقاز وبحر قزوين ومناطق آسيا الوسطى.

والأهم من ذلك كله، ظهور قيادات ذات توجهات أميركية في إيران، فضلاً عن انخراط أميركي ـ إيراني مقلقٌ لروسيا، التي تعتبر أن إمكانيات إيران الفريدة تشكل دوماً شبحاً يطارد أحلامها وتطلعاتها، فهي أداةً رئيسية من خطة الولايات المتحدة للسيطرة على أوروبا المعتمدة بشدّة على مصادر الطاقة الروسية، مع ما لهذا الاعتماد من تداعيات خطيرة على مصالح الولايات المتحدة في المحيط الأطلسي.

إيران وأوروبا

والحقيقة ان إيران هي الخيار الأفضل لأوروبا في سعيها لتنويع مصادر الطاقة لديها، عبر محور الطاقة في تركيا. ومن ناحية اخرى، فإن أيّ انقطاع في اعتماد الطاقة الأوروبية على تلك الروسية، ستكون تداعياته أبعد بكثير من مجرد مسألة انخفاض شديد في الدخل بالنسبة لروسيا وسيحرمها بالتالي من «أداتها الجيوسياسية» للاستفادة من السياسات الأوروبية.

والنقطة الأساس هنا، تكمن في مدى تكامل إيران مع «المجتمع الدولي» وآثار انعكاس هذا التكامل على تقاطع مصالح الولايات المتحدة مع روسيا. وأكثر من ذلك، فقد تجد إيران نفسها في الخندق ذاته مع الولايات المتحدة في مواجهة عدم الاستقرار وانعدام الأمن الحاصل في العراق وكذلك في سورية. إنه توجه قد يعزل روسيا ويجبرها على التفتيش عن شركاء جدد في المنطقة استعداداً لمواجهة التقارب الأميركي ـ الإيراني. إذاً يكفي القول، إن العلاقات الإيرانية ـ الروسية هي اليوم على مفترق طرق.

… والسعودية

صحيح أن احتمال تشكيل المحور الأميركي ـ الإيراني ليس قريباً، بما أنّ مشكلة إيران النووية لم تجد بعد طريقها إلى الحلّ. فاللوبيات الإيرانية والسعودية تعمل جاهدةً داخل أروقة واشنطن على إيقاف الصفقة النووية، كما أن مصالح الولايات المتحدة مع حلفائها الخليجيين لا تزال قوية ما يجعل من الصعب عليها استمالة إيران والإعلان عن حلف معها في الشرق الأوسط في المدى القريب.

أما وقد قلنا ذلك، فإن موسكو أيضاً لا تجازف. بل تسعى إلى الانفتاح على دول الخليج وتأمل يائسةً أنها ستتمكن من إغراء هذه الأخيرة من خلال التأكيد على وجود نظام متعدد الأقطاب.

يبدو أن موسكو قد نجحت في إيجاد محورية ثابتة لها في أرض الملك الأردني عبد الله، الذي زار روسيا السنة الماضية وهذه السنة مرتين، وسيُستضاف هناك للمرة الثالثة هذه السنة بعد أقلّ من شهرين. وقد استضاف الملك عبد الله بدوره في عمّان ـ بين الزيارتين ـ الشخصية الروسية المعروفة الزعيم الشيشاني رمضان قادريوف.

الأردن علامة فارقة

ومن المثير للاهتمام أن روسيا تدرك جيداً أن الأردن لن يتوقف عن دعم السعودية في سعيها إلى تغيير النظام في سورية، وأنّ الأردن بمثابة فرد بالنسبة إلى قوة كبيرة كروسيا، لكنه سيبقى ـ من دون شك ـ دولة جديرة بالاهتمام، نظراً إلى علاقاته المتينة مع السعودية وصلاته القوية مع الغرب، فهناك حوار عميق ومكثف بين الملك عبد الله والرئيس بوتين يرتكز على السياسة الواقعية ومطابقة مصالح الجانبين.

وللأردن، أكثر من أيّ شيء آخر، صلاته الوثيقة مع «إسرائيل»، التي كسبها من الاتصالات السعودية ـ «الإسرائيلية» المتنامية، حيث ترى موسكو مجالاً لتطوير أرضية مشتركة تنطلق من نقطة الكراهية / وخيبة الأمل التي سبّبتها سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

صيد ثمين

وترتاح مصر ـ بلا أدنى شك ـ للتعامل مع هذا النموذج، فالعلاقات الروسية ـ المصرية تتطوّر بسرعة، بعدما زار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي موسكو في آب الماضي، هادفاً إلى توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة، مفادها أنّ القاهرة لا تزال تمتلك خياراتها الاستراتيجية الخاصة في ظلّ نظام عالمي متعدّد الأقطاب.

أما من وجهة النظر الروسية، فإن الصيد الثمين يتمثل بالمملكة العربية السعودية. فموسكو لم تدّخر أيّ جهد في السنوات الماضية من أجل تنشيط العلاقات الدبلوماسية مع الرياض، وتطويرها إلى حدّ الشراكة، غير أن السعوديين يظهرون تلكؤاً وبطأً، أقلّه إلى الآن. فالحرب الأهلية السورية قد شكلت لهم تناقضاً حاداً، ولا يزالون بعيدين من إمكانية فكّ الارتباطات التحالفية مع الولايات المتحدة.

لا زال السعوديون يأملون بأن إدارة الرئيس أوباما تستطيع إيقاف مساراتها الساعية لإيجاد حلول قبل الموعد النهائي المحدّد في نوفمبر المقبل. فاذا لم تُعقد أيّ صفقة واذا نفض مجلس الشيوخ يديه من هذه المهمة وأذعن لسيطرة الجمهوريين، فلن يضيف التقارب الأميركي – الإيراني الكثير، بل قد تتجدّد العداوات القديمة بين البلدين. فالاستراتيجية السعودية المعتمدة حالياً، هي الجلوس بسكون ريثما تنتهي ولاية الرئيس أوباما عام 2016.

غير أن هناك احتمالات حدوث تغييرات دراماتيكية، إذا ما حصلت الاتفاقية الأميركية ـ الإيرانية حول الملف النووي. وهناك احتمال أيضاً من إمكانية خسارة كل من موسكو والرياض وكذلك «إسرائيل» في حال حدوث ذلك. وفي خضمّ مثل هذه الحتمية، سيدخل الشرق الأوسط في صلب النظام العالمي متعدّد الأقطاب. وسنواجه حينذاط الكثير من الـ«إذا»، والـ«لكن» كسيناريوات محتملة. بعضها سيرتكز على كيفية محاربة أوباما «الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش». والسؤال الكبير المطروح هنا، ماذا يمكن أن يحصل فيما لو انقلب «داعش» وتمكّن من نقل ساحات معاركه إلى المملكة العربية السعوية؟

وفي النهاية، سيكون مسرح «حركة المحافظين الجدد الوهابية»، في المملكة لا في الغرب. وستعتمد هذه الحركة في سياستها على تحريض الولايات المتحدة على التدخل كي تتمكن هي من ركوب موجة المشاعر المسلمة المناهضة للأميركيين في الشرق الأوسط، ما سيستقطب المزيد من التمويل والمزيد من المجنّدين الجدد من دول الخليج العربي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى