لماذا استقالة الحريري غير لبنانية؟
د. وفيق إبراهيم
يحاول الفريق السعودي الأميركي و«الإسرائيلي» إضفاء أسباب لبنانية على استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري… فيتبنّون ما ورد في كتاب الاستقالة عن هيمنة لإيران وحزب الله على الدولة في لبنان، مؤكّدين أيضاً على محاولات متعدّدة لاغتياله، أفلت منها غير مرّة.
فهل هذا صحيح؟
روايات الاغتيال نفتها المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي، وهي مؤسسة رسمية يهيمن عليها حزب المستقبل الحريري، وقالت في بيان رسمي إن لا علم لها بهذه «الحكايات».
تكفي هنا الإشارة إلى أنّ فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي يخضع لهيمنة الحريري السياسية بشكل كامل، ويضمّ آلاف رجال الاستخبارات العاملين تحت لوائه في إطار قوى الأمن الداخلي، إنّما مع شيء كبير من الاستقلالية… فيبدو هذا الفرع وكأنّه يعمل لخدمة رئاسة الحكومة فقط، والحزب الذي يرأسه الحريري.
أمّا لجهة هيمنة إيران وحزب الله على الدولة، فهي مردودة على مطلقيها، لأنّ الدولة في لبنان هي مؤسسات داخلية يسيطر على معظمها موظّفون يوالون حزب المستقبل أو يتحالفون معه. وهنا لا بأس من العودة إلى الخلفيات السياسية للذين يتولّون مواقع القرار في المؤسسات اللبنانية الناتجة من الهيمنة الحريرية على الدولة، التي بدأت مع تسلّم المرحوم رفيق الحريري رئاسة الحكومة في 1992، فاجتاح الإدارات معيّناً موالين له من «المستقبل» والحلفاء، ومجنّساً عشرات «آلاف الغجر» الذين يتنقّلون بين سورية وسهل البقاع، معيداً ضخّهم في الدائرة الانتخابية لمدينة زحلة. كما نقل ناخبين من شبعا وعرسال والشمال إلى منطقتَي الاشرفية والكورة، وبذلك تمكّن الرئيس رفيق الحريري من إدارة انتخابات نيابية ناجحة غير مرّة، مسيطراً على الحكومة وقرارات تعيين الموظّفين في دوائر الدولة، وحركة توزيع المال العام التي أدركت ديون لبنان فيها مئة مليار دولار فقط… حتى الآن.
فهل هذه أسباب لبنانية تدفع بالسعد إلى الاستقالة؟ أمّا حزب الله الذي يشكو الرئيس سعد من هيمنته على البلاد، فهو الأقلّ اهتماماً بالتعيينات والتوزيع المالي كما تكشف الإحصاءات. لذلك فإنّ اتهامات حزب الله لا تتعلّق بالداخل اللبناني، بل بدوره الإقليمي… وهذا ما يثير العجب. لأنّ حزب الله طرد «إسرائيل» من لبنان في العام 2000، بعد جهاد ضارٍ دام 18 عاماً، كانت «إسرائيل تسيطر خلالها على الجنوب، وصمد أمام غزو «إسرائيلي» آخر في 2006 وأعاده إلى داخل فلسطين المحتلة.
ولا بأس من التأكيد على أنّ الموقف الأميركي الأوروبي الخليجي الذي كان يرفض تسليح الجيش بما يمكنه من قتال «إسرائيل»، متلاعباً بالتضامن الداخلي، وكان أن أدّى حزب الله دوراً كان على الدولة الغائبة أن تؤدّيه، لذلك فهذه نقطة وطنية كبرى لصالح الحزب، وليست عليه. والأمر ينطبق أيضاً على الإرهاب الذي أدرك الكثير من مناطق لبنان في الشمال والبقاعين الأوسط والغربي، وعرسال والمخيمات وصيدا وبعض أزقّة بيروت. واستناداً إلى معلومات غربية موثوقة، وأخرى أدلى بها وزير خارجية قطر السابق، فإنّ حزب المستقبل دعم هؤلاء الإرهابيين متورّطاً في دعمهم بشكل إضافي على الأراضي السورية بواسطة نوّابه وعسكريين متقاعدين ينتمون إليه، وهيئات دينية لبنانية في طرابلس وعكار اعتقلت الأجهزة الأمنية اللبنانية بعض قياداتها، فيما فرّ آخرون.
لذلك، يجب استبعاد وجود أسباب لبنانية لاستقالة «الشيخ» سعد والبحث عنها في ميادين أخرى، يتصدّر رأس لائحتها تضعضع المظلّة الإقليمية والدولية الراعية للبنان، والتي حالت حتى الآن دون انزلاق الأوضاع الداخلية فيه نحو تفجيرات أمنيّة بسماحها لحزب الله والجيش اللبناني ضرب الإرهاب في معظم البلاد، واجتثاثه من جرود عرسال وبعلبك والقاع.
هذه المظلّة هي أميركية فرنسية، وسعودية إيرانية، أدّت إلى توازنات في رئاسة المؤسسات الدستورية، وأتاحت لها إبعاد خطر الإرهاب عنه بجهود حزب الله والمؤسسات الأمنية الداخلية.
يبدو أنّ آل سعود غضبوا لأنّ التسوية التي جاءت بالعماد ميشال عون رئيساً للبنان لم تؤدِّ إلى ما كان سعد الحريري قد وعدها به. فالرئيس ظلّ وفياً لحليفه حزب الله، مبرّراً سلاحه بالحرب على الإرهاب وأزمة «الشرق الأوسط»، واستباحة «إسرائيل» اليومية أجواء لبنان وبحره وجنوبه.
وترافقت هذه الانتكاسة مع انسداد المشاريع العسكرية السعودية في اليمن، والسياسية الأمنيّة الاستخبارية والتمويلية في العراق وسورية، وتقدّم الدور التركي القطري على الدور السعودي في الإقليم، ونجاح إيران في كسر كلّ أنواع المقاطعات الأميركية السعودية والخليجية «الإسرائيلية». هذا ما دفع بولّي العهد محمد بن سلمان إلى إنتاج خطوتين متزامنتَين يعتقد أنهما تقويّان وضع آل سعود في مملكة الرمال إقالة واعتقال كلّ الأمراء السعوديين المعترضين على تفرّده في صناعة القرار الداخلي، أو الذين يطالبون بحقّهم في الملك… وهكذا نجح الوليّ بإبعاد آل عبدالله وفيصل ونايف والتابعين لهم في الإدارات الأمنية والرسمية، بما يؤسّس لانتقال قريب له بدلاً من والده سلمان في المُلك.
أمّا الخطوة الثانية، فتجسّدت باستدعاء الحريري إلى السعودية، حيث قدّم استقالة مباغتة ليس لها أسباب داخلية موضوعية بقدر ما تعكس أزمة السعودية في الإقليم، وحاجة أميركية إلى استعمال كلّ الأوراق التي تعرقل دور حزب الله في سورية والعراق واليمن… وكيف لا يكون لبنان هو تلك الورقة، وهو عرين الحزب ودائرته الأساسية ومركز انطلاقه!
لذلك، فإنّ تعطيل عمل الحكومة اللبنانية وإرباكها ونقل الصراع اللبناني من المرحلة السياسية إلى المرحلة الأهلية، إنّما هو عمل مقصود لإرباك حزب المقاومة ووضعه في دائرة التجاذبات الداخلية. ويبدو أنّ هناك أهدافاً أخرى تذهب نحو تهشيم عهد الرئيس ميشال عون ومنعه من تحقيق إنجازات فعلية تقضي على حلفه مع حزب الله، أو تعاود جذبه نحو المحور الأميركي السعودي «الإسرائيلي».
أليس غريباً أن يتّهم الحريري إيران بالهيمنة على لبنان، وهو الذي يرى كلّ يوم أسراب الطائرات «الإسرائيلية» المخترقة أجواء لبنان، والمنتهكة سيادته، والقاصفة أهدافاً سوريّة من أجواء الأرياف اللبنانية؟!
وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ استقالة الحريري تبرير لعدوان «إسرائيلي» وشيك على لبنان، له شرعية قانونية لأنّ رئيس حكومة لبنان اتّهم إيران والحزب بالإرهاب، فتكون مسنودة ببيان الاستقالة الخاص بـ «سعد السعودي».
إنّ الخسائر السعودية الأميركية في الإقليم ضعضعت مظلّة الحماية المنصوبة فوق لبنان بعد انسحاب الطرفين الأميركي والسعودي منها، ما يعني استمرار إيران وفرنسا بمحاولات تأمين إسناد إضافي لها أو إعادة ترميم وضعها بتفاهمات جديدة أصبحت شديدة الصعوبة.
هذه هي المعطيات التي تكشف أنّ آل سعود أنهوا الخدمات السياسية لآل الحريري، مصرّين على تفجير الأوضاع في لبنان على قاعدة تبنّي الوزير السابق أشرف ريفي زعيماً سنّياً جديداً تعتمده السعودية لإدارة نفوذها في لبنان. فمجرّد إصرارها على تقديم استقالته من السعودية، ومنعه من العودة إلى لبنان… هذه إهانات قاتلة لسياسي كان يحاول تقديم صورة سياسية كبيرة عنه وعن والده، وتبيّن أنّه موظّف عند آل سعود، الذين يعملون بدورهم أُجراء في إطار السياسات الأميركية «الإسرائيلية».