في ضيافة استفزازية لشاعر مخضرم يُكنّى الحُطَيْئة

أحمد الشيخاوي

هو الشاعر العربي المخضرم أبو مُليكَة جرول بن أوس بن مالك العبسي، له في أغراض القصيدة المقفاة الكثيرة مثل الهجاء والمدح والنّسيب، ولو أنّ الكفّة في ذلك لديه، هي إلى القذع أميل، مخايرة ومفاضلة بين الخلق، بما مثلّه اللسان كسلاح في ذلك الزمان أشدّ فتكاً من حدّ السيف .

تلقّفته دوامة الحياة منبوذاً شريداً محروماً بلا اسم ولا نسب أو هوية، مذ أولى محطات وعيه بذاته في أقاصي عتبات الطفولة المغتصبة، لغاية شبّه عن الطوق فبدايات قرضه الشعر المثخن بسياط الذمّ في تسليطه على الذات انطلاقاً، ومن ثم توسيع الحلقة لتطال ذوي القربى والذين هم ألصق لُحمة وأوطد صلة بأناة القدح المجبول عليها الحُطيئة، قبل تطويق باقي الرّقاب والأعراض بكذا سوط للّدغ الآثم المُميت، طعناً في البعيدين ممّن يودّهم ويمقتهم شاعرنا على حدّ سواء.

بحيث أنّا نجده مرة، وقد تراءى له وجهه مشوّهاً على صفحة ماء بئر، مشين الخِلْقة، من دون أن يجد من يكلّمه حينذاك، أنشد يقول جلّاداً ذاته:

أبت شفتاي اليوم إلا تكلّماً

بشرّ فما أدري لمن أنا قائله

أرى لي وجهاً شوَّه الله خلقهُ

فقُبِّح من وجهٍ وقبِّح حامله.

إنّ مجرّد النبش في سير هؤلاء الفحول، في انضوائهم تحت لواء تحيّن مراتب السموّ واصطياد أنجم المعالي، بصرف النظر عن طبيعة الوسائل ومشروعية السبل المفضية إلى ذلك، ومجرّد نفش خجول في عوالمهم أشبه بما يحمله إصبع من بحر متلاطم الأسرار، لهو كفيل بسرقتنا من لحظة زائفة الرّعشة الناجمة عن لذة العبور في ما يتيحه ماكياج القصيدة الوهم، والقذف بنا عميقاً في ملكوت القصيدة الحلم إذ تجود بثمالة الأبد ودوخة السكر من غير راح، إلّا من خلود القول الشعري المتناسل في ولادات تتجدّد بحسب منسوب ترديدنا وتهجّينا لأبجدية كنز من معلقات وأشعار رموز وعمالقة ديوان العرب، حتى لتبتلعنا مع خطو المتاهة الأول، أصداء ما خلّدوه في سجلّات تاريخ عنفوان واشرئباب القصيدة والأدب الإنساني العابر للحدود الجمالية والفلسفية والمعرفية إجمالاً.

لعمرك ما ذمّت لبوني ولا قلّت

مساكنها من نهشلِ إذ تولّتِ

لها ما استحبّتْ من مساكن نهشلِ

وتسرحُ في ساحاتهم حيث حلّتِ

ويمنعها من أن تضام فوارس

كرام إذا الأخرى من الرّوع شلّتِ

مساعيرُ غرُّ لا تخمُّ لحامهم

إذا أمستِ الشعرى العَبُور استقلّتِ

ولو بلغت دون السماء قبيلة

لزادت عليها نهشل وتغلّتِ.

ألم تر أنّ ذبيانا وعبسا

لباغي الحرب قد نزلا براحا

يقال الأجربان ونحن حيٌّ

بنوا عمّ تجمّعنا صلاحا.

إذا خافك القوم اللئام وجدتهم

سراعا إلى ما تشتهي وتريدُ

وإن أمنوا شرّ امرئ نصبوا له

عداوتهم إمّا رأوه يحيدُ

فداوهم بالشّر حتّى تذلّهم

وأنت إذا ما رمت ذاك حميدُ

وهم إن أصابوا منك في ذاك غفلة

أتاك منهم وعد ووعيدُ

فلا تخشهم واخشنّ عليهم فإنهم

إن امنوا منك الصِّيال أسودُ.

قبّح الله بني بجاد إنهم

لا يصلحون وما استطاعوا أفسدوا

بُلْدُ الحفيظة واحد مولاهم

جُمد على ليس عنه مجمدُ

أغمارُ شُمط لا تتوب حلومهم

عند الصّباح إذ يعود العوَّدُ

فإذا تقطّعت الوسائل بيننا

في ما جنتْ أيديهم فليبعدوا

من كان يحمد في القرى ضيفانه

فبنوا بجاد في القرى لم يحمدوا.

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ

حمر الحواصل لا ماء ولا شجر

غيّبت كاسبهم في قعر مظلمة

فاغفر سلام الله عليك يا عمر

أنت الأمين الذي من بعد صاحبه

ألقت إليك مقاليد النّهى البشر

لم يؤثروك بها إذ قدّموك لها

لكن لأنفسهم كانت به الأثر.

تنحي فاقعدي مني بعيدا

أراح الله منك العالمينا

ألم أوضح لك البغضاءَ مني

ولكن لا أخالُكِ تعقلينا

أغربالاً إذا استُدعت سراً

وكانوناً على المتحدثينا

جزاكِ الله شراً من عجوز

ولقَّاك العقوق من البنينا

حياتكِ ماعلمت حياةُ سوءٍ

وموتُكِ قد يسرُّ الصالحينا.

خيال يروعك عند المنام

ويأبى مع الصبح إلّا زوالا

كنانية دارها غَربة

تجدُّ وصالا وتبلي وصالا

كعاطية من ظباء السّليل

حسَّانة الجيد تزجي غزالا

تعاطى العضاه إذا طالها

وتقرو من النبت أرطى وضالا.

لحاك الله ثم لحاك حقاً

أباً ولحاك من عمٍّ وخالِ

فنعم الشيخُ أنت لدى المخازي

وبئس الشيخ أنت لدى المعالي

جمعت اللؤم لا حياك ربي

وأبواب السفاهةِ والظلالِ.

هذا ونجد ذواتنا مع الحطيئة، في صلب حصار الضيافة الاستفزازية التي تنمّ عن شخصية شاردة عن تطلّعات الآخرين، أقلّه في زمن صولة الشعر العربي.

سيرة مثيرة للقلاقل والجدل، عبرها، يتجاوز صاحبنا أقفاص السّلبية التي يحلو لبعض السّطحيين، رشقه فيها بمكوّنات العجز البشري، ولستُ أقصد بقولي أنّ الحطيئة عاش مكتملاً، بقدر ما يروقني نهجه في الحياة، كعصيّ ومتمرّد حتّى على ذاته من حيث المشاكسات الإبداعية والمعيشية سيان .

أسلوب حياة منحه، في اعتقادي الواحدية في موسوعية القدح، ويبرز ذلك جلياً في إرساليته مع الخليفة عمر، والمغرقة في تلاوين سردياتها الشعرية، إذا شئنا، تعكس اشتعال الروح التجريبية لدى الرجل، ومناطحته لأنجم المعالي، خلافاً لِما قد يتبادر إلى الأذهان الضيقة، من أنّ تعاطي هذه القامة شعر القدح على نحو خاص، أملته الفاقة والمآرب التكسّبية .

شاعر عقّ قافلة زمانه إلى ما يخلّد اسمه وينقشه بماء الذهب في الذاكرة التاريخية ويدلّل على جنون العظمة والعبقرية لدى الإنسان الخارق.

فطوبى لنا به عصفوراً ساخطاً غرّد خارج السّرب ففاضت قلوبنا لأشجانه. عاش يشار إليه بالبنان، ومارس على سجيته قولاً شعرياً انقلابياً خلخل به معتقدات ورؤى جاهزة وأحرج عقليات دأبت على ثقافة السائد، ردحاً من زمن هيمنت عليه الإيقاعات السّكونية وصور الخمول المعطّلة ومفوّتة أيّ غزو، من الداخل أقصد، يجيء باعثاً على الخصب واغتصاب أقوى للحياة، وجملة ما هو والج في ما هو أشبه وإلى حدّ بعيد، بطقوس كاريكاتيرية تخصّ ارتداء المعنى الوجودي للكائن، وفي تجاور وتلاقح مع شتّى عناصر منظومة المتجاوز لتجارب المستعاد والمكرور، سعياً إلى اجتراح أفق المشاهد الأكثر دينامية ومقدرة على ضخّ دماء جديدة في الذات وسائر ما يحيط بها .

يجذبنا إلى رحم اهتماماته، بشعرية مشبعة بريع ذات الهجّاء الحذر باستمرار وكأنما الغيب تفجّر عيوناً لرصد رحلته في سراديب حياة مفخّخة ومنقوصة يغالبها هبوطها العاطفي فوق ما لهاجس الرّغيف فيها من مدعاة على صنوف المنغّصات ومُثوّر لوعثاء منفى اختياري بامتياز تستفحل فيه عزلة وجنون القصيدة في اعتكافها على محراب انتهاج غرض الهجاء أسلوب كتابة وحياة.

شاعر وناقد مغربيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى