«ربّما»… مشاكسة متمرّدة جديدة للشاعر زاهر العريضي

عبير حمدان

ربّما لم ندرك كيفية قراءة مفردات الأيام. وربّما لم نعرف مسار الريح وقدسيّة الحبّ وخفايا اللغة. لكن الشاعر الذي يسكننا يسعى إلى رسم الحروف بإيقاع متمرّد على علامات التساؤل، وقد ينجح تارة في قلب المقاييس للرؤيا التقليدية، وقد يسقط في الفراغ مرّة، ما يحثّه على التحليق مجدّداً في فضاءات تجريبية مستفزّة بإطار إيجابيّ.

نصوص الزميل الشاعر زاهر العريضي التي ضمّها إصداره المرتقب «ربّما»، مشيراً إلى أنها تجريبية تشبه الوميض في مساحة أضحت اللغة فيها مغلولة لكثرة الطارئين عليها، وهو الذي تفوّق في تطويع المعنى بصورة مختصرة حيناً، لكنها مكثّفة ومباشرة، وفي مكان آخر استفاض بشكل انسيابيّ جميل ومتقن.

يمكن لقارئ «ربّما» التنقل بين الوطن والحبّ والتفاصيل اليومية البسيطة بسلاسة ممتعة، وقد يجد الكثير من الصوَر التي تشبهه وتعبّر عنه، فيشعر أنه شريك فعليّ في صوغ تلك القصائد رغم ما تتضمّنه من عمق ورؤية تتخطّى الوهم والزمن:

ربّما… هذا العالم موجود في إدراكنا فقط

ربّما… هو شيءٌ آخر في مخيّلتنا

ربّما… ليس موجوداً أصلاً

كوهمٍ نتمتّع في إنعاشه

وأحياناً… أراه كألعاب الصغار…

ربّما…نخترق الزّمن

ونرى ما لن نعيشه

كأنّنا عشنا ما لن نراه

ربّما… لأنّ الأشياء الحتميّة

كالرصاصات القاتلة

لا تحمل التأويل…

إلّا أنّ حتميّة الأشياء لا تقتل الأمل فينا ولو سعى البعض إلى تشويه الممكن وفقاً لعقولهم المتصحّرة بهدف دفن ما في داخلنا من مقاومة. لكن هيهات… فالشمس والشجر والحجر والضوء وشعاع القمر حكاية بقاء:

في بلادنا العربية

يخشون الشمس أن تكون مقاوِمة

يتّهمون الأشجار بالمقاوَمة

ويعتقلون الحجر بتهمة المقاوَمة

وربّما يتّهمون الجبال بالشموخ

والطيور بالحرّية

والتراب بالكرامة

في بلادنا العربية

تتصحّر عقول…

يرسمون البحر في صحراء

وسفينة… وطائرة تُبحر في ماء

في بلادنا العربية

يعدمون الصدى بكاتمٍ للصوت

وحدهنّ أمّهاتنا

ما زلن ثائرات

يحبلن بالمقاوَمة!

لعلّ زاهر العريضي أراد اختبار التناقضات التي تسكننا حين نعبر من العتم إلى الضوء ونجول في شوارع المدينة، إذ إنّ بعضنا يرونها مغلولة وهناك من لا يبالي، فقد يكون عابر سبيل بلا ملامح محدّدة، وآخر يبحث عن ذكرياته ويخبئها بصمت الغياب. لكن شاعرنا وفي خضمّ كلّ هذا الجنون الذي يطوّقنا، يتقن رسم الحبّ بما يقارب الحلم الجميل ولو خلف البحر:

تعالي نغلق أبواب المدينة على الأموات

ونرقص خارج الأسوار ونرى الحدائق البعيدة

ونبني مدينة في هذا السراب

خلف البحر…

وللهوامش فضاءاتها التجريبية الغريبة عن فرضية القصيدة والنصّ النثري كأنّها أسلوب مختلف ومتفرّد يقارب الفلسفة الخاصّة، ويتضمّن دعوة إلى الخروج عن السياق التقليديّ لانسياب اللغة. كثيرة هي الهوامش التي اعتمدها العريضي، إلّا أنّه تفوّق على ذاته حين انطلق إلى مرحلة الاختفاء بحثاً عن السكون والانعزال:

صوت الكون مزعج أحياناً بحاجة إلى الصمت والانعزال

الى الاستسلام من دون التبرير لأحدٍ أيّ شيء

فقط لحظة سكون وصمت.

أحياناً نتعب من المحاولات ومن البوح ومن إثبات الحضور

أحياناً نحتاج إلى لحظة اختفاء بعيداً عن الفوضى

أن نكتب خارج الفضاء:

«مات كوكب الأرض

مات وحيداً… من دون صلاة

من دون عزاء… من دون حضور

وحتى من دون فنجان قهوة»!

هي المدن الملوّنة بالحبر نكتشف تفاصيلها على هيئة نصوص نسجتها العين التي صارت جواز سفر لمن يقرأ، ولكن من دون حاجته إلى إذن للترحال. كلّ الشوارع بضجيجها تسكن الأوراق، وتبقى بيروت انعكاساً للجمال الذي يشبهنا. ودمشق خلاصة الأجيال والدهشة وسرّ البشرية:

في مدينة

تنظر إلى العالم بدهشة واشمئزاز

كأنّها تهمس في خلايا الجسد

اتّعظوا

هنا سرّ البشرية

احترموا الحجر العتيق

غبار التاريخ

نحن خلاصة أجيال!

قد لا تكفي قراءة واحدة للإضاءة على كتاب «ربّما» لِما يختزنه من العشق المجبول بالغضب والبوح والحياة والموت والفرح والحزن. إنّما يكفي أن نحاول مرّة وقد نعيد النظر في مقاربتنا الواقع وفعل الوجود واحتمال الحبّ وإدراك ما يحيط بنا من تناقضات.

يُذكر أن كتاب «ربّما» للزميل الشاعر زاهر العريضي، صادر عن «دار أبعاد»، ولوحة الغلاف من تصميم إيهاب أحمد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى