لبنان وطريق الحرير

زياد حافظ

لا يمكن أن نقلّل من حالة الإحباط والقلق التي أصابت اللبنانيين جرّاء قرار الاحتجاز غير القانوني وغير الأخلاقي لرئيس مجلس الوزراء اللبناني السيد سعد الدين الحريري، وإجباره على الاستقالة، وذلك من دولة تزعم أنها «شقيقة» و«حريصة على سيادة واستقلال لبنان فتضرب السيادة والقوانين الدولية والأعراف عرض الحائط. فلا الشكل مقبول ولا حتى المضمون. وإذا كنّا نشدّد على الشكل، فلأننا نعتبره إهانة للبنان ولسيادته ولجميع اللبنانيين على اختلاف مشاربهم السياسية وفي مقدمتهم أولئك الذين اتخذوا بلاد الحرمين مرجعية سياسية لهم.

ففي جمعة لأصدقاء لبنانيين مقيمين في الولايات المتحدة ساد الخوف والإحباط. فعندما سألونا «ماذا بعد؟»، كانت وجهة نظرنا أن الوضع لا يخلو من الخطورة، ولكنه غير مقلق. استغرب البعض من هذه المقاربة إلاّ أننا نعتبرها مبنية ليست فقط على معلومات بل على تقدير موقف دقيق لميزان القوّة الذي يحكم العلاقات والسلوك لمختلف اللاعبين في المشهد العربي والإقليمي والدولي.

فإذا كنّا نعتبر أن الضغوط التي يتعرّض لها لبنان كحكومة وقوى سياسية وشعب وحتى كيان قد تطيح بالسلم الأهلي والاستقرار الاقتصادي والأمني، إلاّ أن هناك عوامل عدة تخفّف إن لم تهمّش فعّالية تلك الضغوط في المدى المتوسط والبعيد. مفعول هذه الضغوط هو في المدى القصير إن لم نقل المباشر غير أنها ستتلاشى أمام حقائق لا يمكن تجاهلها.

فما هي هذه «الحقائق»؟

أولى هذه الحقائق وعي اللبنانيين وقياداتهم الرسمية والسياسية لمخاطر الانزلاق في مواجهات عبثية تحرق الأخضر واليابس. وإذا كان المحرّضون على الفتنة في لبنان يصعّدون الضغوط عبر الاستفزازات وانتهاك حرمات السيادة في لبنان لجرّ اللبنانيين إلى التقاتل غير أنهم ما زالت في ذاكرتهم ويلات الحرب الأهلية. حتى كتابة هذه السطور نجد إجماعاً أو شبه إجماع على ضرورة تجاوز الانجرار إلى مواجهات عبثية ويُسجّل ذلك في خانة المستهدفين من تلك الإجراءات، كما في خانة خصومهم السياسيين.

ثانياً، إن ردود الفعل العربية والدولية باستثناء الكيان الصهيوني وبعض دول مجلس التعاون الخليجي لم تكن مؤيّدة لما حصل. كما أنها ترفض الانزلاق بحرب تريدها حكومة الرياض ومعها الكيان ضدّ كلّ من لبنان والجمهورية الإسلامية في إيران وسورية. الموقف المصري كان واضحاً، وجاء في سياق رفض متكرّر للانزلاق في متاهات حرب اليمن وسورية. والموقف المصري الصريح برفض الهجوم على حزب الله وإيران يؤكّد المنحى الاستقلالي لمصر ويؤكّد استكمال الخطوات التي تعيد مصر إلى دورها العربي التي تخلّت عنه بعد اتفاقيات كامب دافيد. أما على صعيد الموقف الدولي فروسيا أبدت استغرابها للإجراءات وطالبت بعودة الرئيس الحريري إلى لبنان.

ثالثاً- إن التلويح بفرض الحصار الاقتصادي والمالي على لبنان بحجّة محاصرة حزب الله ونزع سلاحه ثم القضاء عليه سيرتدّ على أصحابه. فالمستثمر في الجزيرة العربية فقد الثقة بحماية ممتلكاته بعد الإجراءات التعسّفية التي أصابت كبار الشخصيات في بلاد الحرمين. إنّ الخشية من سحب الودائع الخاصة من المصارف اللبنانية مبالغ فيها. فالنظام المصرفي اللبناني أكثر أمانة من المصارف الخليجية من حيث الحماية السياسية والقانونية وأكثر مردوداً لأصحاب الودائع. ليس هناك من مصرف دولي يعطي المردود على الودائع، كما تفعله المصارف اللبنانية. فارتفاع الفوائد، غير المبرّرة اقتصادياً، قد يجد مبرّراً سياسياً وأمنياً اقتصادياً في هذه الأيّام. أضف إلى ذلك أنه عند كتابة هذه السطور لم يشهد لبنان هروباً من الليرة إلى الدولار، كما لم نشهد تحويلات مصرفية تذكر إلى خارج لبنان. وليس هناك من دليل على الإقبال على موجة كثيفة من الخروج من المصارف اللبنانية.

إنّ سلوك حكومة الرياض قد يخدم في المدى المتوسّط والبعيد لبنان وقد يضرّ بمصلحة الجزيرة العربية، حيث الإقبال على الاستثمار قد يشوبه الحذر في غياب الضمانات القانونية وحماية الاستثمار. إن غياب حكم دولة القانون والخروج عن الأعراف والتقاليد بالشكل الفظّ الذي تجلّى بالقرارات الأخيرة كانا في رأينا مسماراً آخر في نعش النظام القائم في بلاد الحرمين.

رابعاً، إنّ الصراع القائم في المنطقة له عناوين عدّة. فهناك عنوان استهداف المقاومة وحلفائها العرب والإقليميين والقوى السياسية المتحالفة معها. غير أنّ استهداف المقاومة ليس فقط خدمة للكيان الصهيوني بل أيضاً يأتي في سياق لعبة جيوسياسية كبيرة تكلّمنا وكتبنا عنها في مقالات عدة. هذه اللعبة هي إعادة تكوين نظام عالمي جديد عبر مراجعة توازن القوى والتي أفرزتها نتائج الحرب الكونية الفاشلة على سورية وبعد إخفاق الاحتلال الأميركي في العراق في تحقيق نتائجه السياسية المرتقبة، وذلك بفعل المقاومة له. فما هي اللعبة التي نتحدّث عنها؟

هناك مشروعان متصارعان في العالم. مشروع هيمنة أحادية تريدها وتقودها الولايات المتحدة مع بعض الحلفاء الغربيين وبعض الأنظمة العربية التي تعتبر أنّ الحماية الأميركية لها هي ضمانة لاستمرارها في الحكم وسوء الإدارة وتهميش شعوبها. إنه مشروع العولمة، الوجه المتقدّم، للإمبريالية الأميركية والذي يهدف إلى تدمير مفهوم دولة الأمة وإحلال مكانها الأوليغارشية المالية عبر سياسة التفريق والتفتيت للمجتمعات لجعلها مجموعات استهلاكية فقط لا غير. كما أنّ الهجمة على المنطقة تستهدف تفتيت المجتمعات كيانات صغيرة ضعيفة سياسة فرّق تسد لتمكين السيطرة عليها لمحاصرة الكتلة الأوراسية الصاعدة. فالوجود الروسي في سورية مثل الوجود الإيراني في العراق وسورية يحظيان بالدعم الصامت الصيني. فكلّ من روسيا والصين والجمهورية الإسلامية مستهدَفة من دول الغرب وفي مقدمّته الولايات المتحدة ومعها المملكة المتحدة وفرنسا، التي تريد السيطرة على قلب العالم المتمثّل بالكتلة الأوراسية. فالأمن القومي لهذه الدول مرتبط بشكل مباشر بالجغرافيا العربية والمشرقية.

أما المشروع المقابل فهو مشروع تنموي يستفيد منه الجميع، من قيادات ونخب إلى جماهير واسعة، ومبني على إشراك أكبر مجموعة ممكنة في كلّ دولة وفي كلّ مجتمع وعلى قاعدة احترام القانون والسيادة. وهذه هي الميزة الأساسية لهذه السياسة التي لا تريد إقصاء أحد بينما السياسة المقابلة هي سياسة إقصاء بامتياز. فالأحجام لن تكون مبرّراً للاستقواء والهيمنة. هذا المشروع سمته الجغرافية هو الأوراسية الصاعدة. أما مضمونه السياسي فهو مركّب من منظومة شنغهاي الأمنية، وشبكة المؤسسات الاقتصادية والمالية كصندوق الاستثمار الآسيوي وبنك التنمية الملازم له، وعبر السير في إحلال منظومة مالية خارج هيمنة الدولار عبر التعامل بالعملات الآسيوية وعبر العودة المتدرّجة للذهب في تغطية التبادل النقدي. أما السمة التقنية لذلك المشروع، فهي التوصيل المبالغ به والشفافية هيبركونكتيفيتي فهو مشروع الطريق الواحد والحزام الواحد. وإضافة لكلّ ذلك فإنّ هذه الكتلة تحظى بقدرات عسكرية لا يُستهان بها وفي رأي العديد من المراقبين أكثر كفاءة ونوعاً وكميّة من السلاح الغربي بشكل عام، والسلاح الأميركي بشكل خاص. فتفوّق القدرات العسكرية الأميركية يعود أكثر للحملات الدعائية والأفلام الهوليوودية أكثر من التجربة الفعلية لأدائها الميداني بعد الحرب العالمية الثانية.

مشروع الطريق الواحد الحزام الواحد أو «طوحو» أول حرف للكلمات الأربع هو الاسم الجديد لطريق الحرير القديمة التي كانت توصل الحرير من الصين إلى شواطئ البحر المتوسط ومن ثمّة إلى القارة الأوروبية. طريق الحرير يربط بين بحر الصين والمتوسّط. فهذا السوق الأوراسي يحمل في طيّاته مشاريع عديدة تقدّر بـ 14 تريليون دولار تشمل 64 دولة و4.4 مليار نسمة وتشكّل 40 في المئة من الاقتصاد العالمي. وهذه المشاريع ستخلق طرقاً جديدة، ومترابطة، وجامعة، ومبدعة، في التجارة والصناعة والتواصل مما يجعل جميع المشاركين، دولاً وشعوباً، في موقع الرابح. أما مجموعة المشاريع في «الحزام الواحد الطريق الواحد» فقد تصل إلى ما يوازي 250 مليار دولار. ومن ضمن هذه المشاريع سكّة حديد تربط بحر الصين بطهران بحر القزوين وقد يمتد إلى العراق وسورية ولبنان. هذا وقد بدأت الصين ببناء القطار السريع الذي يربط شرق الصين بتركستان تمهيداً للوصول إلى طهران. هذا بعض ما تمّ رصده وهناك المزيد من ذلك.

فأين لبنان من كلّ ذلك؟ من مفارقات الأمور أن مجموعات لبنانية أطلقت تلك التسمية، أي «طوحو»، في المشرق العربي. وهي مجموعة مصرفية لبنانية قادتها مجموعة فرنسبنك ومجموعة سياسية لبنانية هي مجلس بلدية بيروت عبر عمليات التوأمة مع عدد من المدن الصينية. أضف إلى ذلك فإن الصين، ومعها روسيا والجمهورية الإسلامية في إيران، ستصبح المستثمر الرئيس في إعادة إعمار سورية. لا حاجة أن يكون المرء عالماً بالاقتصاد ليستنتج أن لبنان ستطاله منافع إعادة الإعمار في سورية. بعض المستثمرين اللبنانيين أصحاب النظرة البعيدة استثمروا في توسيع الطاقة الإنتاجية للإسمنت في لبنان منذ بضع سنوات، كما أن بعض المعلومات تفيد بإن عدداً من رخص معامل إسمنت جديدة قد أعطيت لبعض النافذين وذلك للمشاركة في مشاريع إعادة البنية التحتية في سورية.

الجدير بالذكر أن إعادة الإعمار في سورية لن تكون بالطريقة المعهودة من قبل المؤسسات المالية الغربية التي ستلهث إلى تقديم القروض، وذلك لفرض الشروط على الدولة السورية. طريقة التمويل ستكون مختلفة ومتوازنة مع أغراض التنمية والحفاظ على سيادة الدولة وإرباحية الاستثمار حيث الدولة والشعب والمستثمر يشاركون فعلياً في الاستفادة.

في آخر المطاف، لا نستبعد هجرة مضادة، أي وافدة إلى لبنان من اللبنانيين الذي سعوا وراء لقمة العيش في الجزيرة العربية. فبلاد الشام وبلاد الرافدين مع لبنان هي مستقبل اللبنانيين لتحقيق التنمية والنمو.

أمين عام المؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى