«الاستثمار» في الحريري جزء من «عدّة الشغل» الأميركية
د. وفيق إبراهيم
«القطبة» كامنة في موقف البيت الأبيض وليس في أيّ مكان آخر… وليس تسطيحاً للموضوع القول إنّ بإمكان السياسة الأميركية إطلاق سراح رئيس حكومة لبنان المحتجَز في السعودية منذ عشرة أيام من دون بذل جهود كبيرة، حتى أنّ بيان الدعم الذي أشادت فيه الإدارة الأميركية بسعد الحريري، واعتبرته حليفاً هامّاً لها، قفز عن أزمة الرّجل مكتفياً بمناقبيّته. علماً أنّ الأزمة ليست أخلاقية، بل سياسية صرفة.
لذلك يجوز التساؤل عن الأسباب التي تفرض على الرئيس ترامب التحوّل لاعباً ثانوياً في موضوع الحريري؟!
هل لمجرّد إرضاء النهج الديكتاتوري لوليّ العهد محمد بن سلمان، الذي يعتبر «السعد» موالياً لمعارضيه داخل المملكة؟! أم أنّ واشنطن مقتنعة بالأسباب الأمنيّة التي تفرض على السعوديين حماية «ابنهم» سعد بين ظهرانيهم في الرياض؟ لعلّ هناك أسباباً إضافية لها علاقة بالساحة اللبنانية تحديداً؟ وهل يمكن لواشنطن «إخراج» نفسها من جريمة سياسية ودبلوماسية يقترفها سياسيّون عرب موالون لها ضدّ سياسيّ عربيّ آخر موالٍ لها أيضاً؟
العقل والمعلومات يُقصيان الاحتمال الأول، لأنّ «السعد» وأشقاءه وعائلاتهم لا يتدخّلون في الشؤون السياسية الداخلية للمملكة، ولديهم صداقات في أوساط مختلف الأجنحة الأميرية التي يتشاركون معها في مشاريع اقتصادية داخل «مملكة المكرمات» وخارجها، مع حرصهم على الولاء السياسي للّذين يتولّون «ولاية الأمر» والمقرّبين منهم.
هكذا كانت السياسات الاقتصادية لرفيق الحريري وكلّ المحيطين به مع آل سعود، والتي أدّت إلى وثوقهم به إلى حدود اعتباره الحصّة السعودية في معادلة الطائف حول لبنان 1989، التي أوصلته إلى رئاسة الوزراء، لكنّ المرحوم رفيق تدرّج من مستوى المعبّر عن الدور الإقليمي السعودي في لبنان إلى السياسي الأول الذي نجح في نسج علاقات عميقة بالطرف السوري الموجود أيضاً في معادلة الطائف، وبالطرف الأميركي الذي استقبله غير مرّة في البيت الأبيض كزعيم حصريّ للبنان.
وبعد اغتياله، انتقلت زعامات الطائفة السنّية وحزب المستقبل والتحالفات إلى ابنه سعد، الذي تسلّم رئاسة الوزراء… لم يكن بحجم أبيه، لكنّه أدّى دوراً معتدلاً يشطح حيناً لإرضاء السعودي والبيت الأبيض، ويتعقلن حيناً آخر لضرورات الاستقرار الداخلي، على قاعدة أنّ حزب الله تنظيم لبناني وإقليمي كبير لا يمكن التعامي عنه. وفي حركة من ألعاب الخفّة في السياسة اللبنانية، اعتقد «السعد» وداعموه الإقليميون والدوليون أنّ نسج تحالف سرّيّ مع العونية السياسية على قاعدة ترئيس عون وتقاسم الاقتصاد والتعيينات، كافٍ لجذب العهد نحو الحلف الأميركي السعودي. لكنّ النتائج لم تكن على قدر الطموح، فالرئيس عون مع دور حزب الله في الإقليم ومناصر لسلاحه في وجه «إسرائيل».
هذا ما جعل السعودية تشعر بفشل مراهناتها على تسوية لبنانية داخلية، أقنعها بها السعد وابن عمته نادر، فهل كانت واشنطن بمفردها راضية عن نتائج هذه التسوية على المستوى السياسي؟
بدت واشنطن أكثر استياءً من الرياض لجهة مواقف الرئيس ميشال عون من حزب الله، التي لم يتجرّأ رئيس لبناني على الجهر بها، وخصوصاً لجهة حياديّته من انخراط «الحزب» في أزمات الإقليم، معتبراً أنّها جزء من أزمات تجد حلاً عندما تنتهي هذه الأزمات الإقليمية. أمّا الأخطر، فتأييد عون لسلاح حزب الله في وجه «إسرائيل» والإرهاب.
هذا هو الحدّ الأقصى الذي لا يمكن هضمه أميركياً وسعودياً، خصوصاً أنّه يتزامن مع انهيارات المنظّمات الإرهابية في سورية والعراق ولبنان، والمراوحة في اليمن، وبدء تململ عربي وإسلامي من سياسات ترامب التصعيدية في كلّ مكان.
كان المطلوب أميركياً، وقبل القرار السعودي، ضرب إيران في حركتها العربية. وهنا يظهر حزب الله صاحب الدور الأساسي في حالة التحالف مع طهران على المستوى العربي، فتفتّقت العبقرية الأميركية عن ضرورة عرقلة حزب الله في عرينه اللبناني. وهنا، لم تجد أفضل من «سعودية» محمد بن سلمان لتنفيذ المطلوب، نظراً لإمكاناتها اللبنانية في حزب المستقبل والإفتاء السنّي والحلفاء المسيحيين… والقيادات الدرزية.
لكنّها أُصيبت بخيبة أمل، لأنّ هذه القوى رفضت خطة التفجير التي يقول «القصر الجمهوري» إنّها متقاطعة مع احتمال هجوم «إسرائيلي» كبير على لبنان. لكن محمد بن سلمان حظي بالموافقة الأميركية على إبادة مراكز القوى السعودية المنافسة له، مع إمكانية إخراجه من أزمته اليمنيّة بمقايضة مع الوضع اللبناني، إنّما على أساس فكّ روابط حزب الله مع الإقليم.
والطريف أنّ هذه الخطة اقتضت تنفيذ السياسة الأميركية لتمويه تمظهر على شكل بيان إشادة بمناقبيّة «السعد»، من دون الإشارة إلى أيّ سبيل لحلّ الأزمة. تماماً كنصب أزمة بين السعودية وقطر، تطالب واشنطن يومياً بحلّها من دون تحديد الآليات الممكنة للحلّ، وبذلك تمكّنت من سحب مئات مليارات الدولارات على شكل رشى وصفقات مختلفة من بلدَي الأزمة، كما وفّرت لمراكز البحث العلمي والإعلامي الأميركيين مئات ملايين الدولارات تدفعها السعودية وقطر لتأمين دعايات لهم في الشارع الأميركي. هذه هي المعطيات التي تجعل من «أزمة الحريري» طويلة الأمد، وعدّة شغل أميركية تحتاجها لمنع ترجمة انتصار المحور السوري الروسي الإيراني وحزب الله على المستوى السياسي، ويؤدّي اللاعب السعودي دور «البطل المتأمرك» وسط بيئة سياسية عربيّة متذمّرة، لكنّها لا تلوي على شيء. فهي تخشى من غضب «الأميركي» عليها وحرمانها من المكرمات السعودية، لذلك تكتفي بمحاولات سياسية خجولة قد تتشكّل على قاعدة إصدار بيان ختامي في مؤتمر وزراء الخارجية العرب يوم الأحد المقبل، يحذّر من الدور الإيراني في المنطقة، ويدعم عودة الحريري إلى رئاسة وزراء لبنان «من دون أزمة» تكليف وتشكيل كما تشتهي واشنطن والسعودية و«إسرائيل».
الأمل إذن لمنع تفجير موجود في عناصر عدّة: أولاً، الاستمرار في التضامن الداخلي بين القوى الأساسية في لبنان، وهي رئاستا الجمهورية ومجلس النوّاب مع حزبيهما التيار الوطني الحر وحركة أمل، وهما تنظيمان وازنان على الساحة اللبنانية، وحزب الله ذو الثقل الجماهيري الداخلي والإقليمي، وحزب المستقبل الحريري، والحزب التقدّمي الاشتراكي وعشرات الأحزاب المسيحية، وسياسيون مسيحيون مستقلّون.
يستطيع هؤلاء بالتضامن الذي يبدونه لجهة الإصرار على إطلاق الحريري وأشقائه وعائلاتهم، تشكيل ثقل يمنع الفتنة في الداخل، ويعرقل الخطة الأميركية الوافدة من «إسرائيل».
كما تستطيع روسيا أن تلجم اندفاعة عسكرية ضخمة لاحتلال لبنان، وهي التي لن تسمح قطّ بتغيير نتائج الميدان الذي نفّذت على بيئاته الإرهابية أكثر من تسعين ألف غارة.
هناك أيضاً دور أوروبي بزخم فرنسي يحاول العودة إلى العلاقات الدولية بتحرّر نسبيّ عن الدور الأميركي، لأنّ أوروبا تعلم أنّ الشرق الأوسط دخل في مرحلة حلّ أزماته، ما يجعل من إعادة إعماره سوقاً اقتصادية ضخمة تستطيع بلدان أوروبا الاستفادة منها ومنع الاحتكار الأميركي.
هذا هو الجانب السياسي، أمّا لجهة الوضع العسكري، فإنّ جبهة المقاومة من إيران إلى لبنان كفيلة بالدفاع عن لبنان، والمكتسبات السياسية التي تحقّقت. كما أنّ بإمكانها الاستمرار في الضغط على السعودية حتى تخلية سبيل رئيس الحكومة سعد الحريري.