حبيب الشرتوني: الوقوف في وجه العار
نزار سلّوم
لم يصدر حكم الإعدام في حق الأمينين حبيب الشرتوني ونبيل العلم في العشرين من تشرين الأول 2017، بل هو حكم قديم صادر من ذلك التاريخ الذي بدأ فيه فصل العار.
لكن، من أين ومتى بدأ هذا العار، واتخذ مكانه ومكانته في تاريخنا؟ في تاريخنا الحديث خصوصاً، المُتخم بأقبح صنوف العار، مثلما هو نابض بأبهى وقفات العزّ.
من أين ومنذ متى يبدأ هذا العار؟!
أنعود، مثلاً، إلى تلك اللحظة التي وقفت فيها «القابلة» الفرنسية الاستعمارية: الجنرال غورو، في الأول من أيلول في العام 1920 وإلى جانبه «جناحا لبنان» البطريرك إلياس الحويك والمفتي مصطفى نجا، ليعلن ولادة دولة لبنان الكبير كمنتج انتدابي خاص، فيما لم تجفّ بعد دماء يوسف العظمة ورجال الجيش السوري على أبواب دمشق؟
أنعود إلى ذلك التاريخ ونبدأ من تلك الواقعة بقراءة ذلك العدّ الكرنولوجي الواصل إلى حكم المجلس العدلي في بيروت عام 2017؟ يبدو الأمر على هذا النحو مرهقاً، وتبدو عملية ملاحقة العار ومحطاته لإحصائها وعدّها ضرباً من استحضار الكوابيس الثقيلة القاتلة لليقظة والقابضة على الروح… حسبنا، وفقط، أن نعود إلى صيف العام 1982.
في ذلك الصيف، الذي لا يُنسى، كان الجيش «الإسرائيلي» يُطبق على بيروت، ودبّاباته تتمختر مزهوّة إلى جانب حلفاء «إسرائيل» الأشاوس الذين كانوا في ذروة نشوتهم إذ يرون آرييل شارون بينهم… شارون الذي وعدهم بدخول بيروت واحتلالها.. وها هو يفعل ولم يتبقّ إلا القليل حتى ينجز وعده على نحوٍ تامّ.
في الثالث والعشرين من آب من ذلك الصيف، كان من المستحيل إنجاز عملية انتخاب رئيس الجمهورية في مبنى البرلمان، أو في منطقة بعيدة عن الدبابات «الإسرائيلية»، وعلى ذلك تمّ اعتماد الكلية الحربية في الفياضية كمكان لإنتاج «سلعة سياسية»، بمواصفات مناسبة للاحتلال الإسرائيلي وسياساته واستراتيجيته.
بدأت ميليشيا القوات اللبنانية عملية استجلاب النواب بمؤازرة وضغط جيش الاحتلال. بعض النواب حضر بحماسة مفرطة، وبعضهم بالقوة. فيما تعذّر حضور عدد منهم، ورفض بعضهم الحضور رفضاً قاطعاً. كان رئيس مجلس النواب آنذاك كامل الأسعد متمترساً في ثكنة الفياضية إلى أن استكملت عملية «اصطياد» نواب الشعب، ليتحقق النصاب القانوني وتجري عملية الانتخاب ويفوز المرشح الأوحد قائد القوات اللبنانية بشير الجميّل. يتباهى كامل الأسعد متفاخراً أنه رفض نصيحة الرئيس حافظ الأسد له، بعدم عقد جلسة الانتخاب قائلاً: لن أترك مصير رئاسة الجمهورية للفراغ! مفضّلاً حشو الفراغ بسلعة «إسرائيلية» المقاييس، نموذجية في أدائها وفكرها واتجاهها فضلاً عن نموذجية مادتها.
هكذا، في ذلك الصيف، وفي ذلك التاريخ، بدا فصل العار في ذروة تجلياته، وانفتح الباب على مصاريعه أمام «إسرائيل» وجيشها، كي تتقدّم بيسر وسهولة فوق دولة لبنان الكبير كي تعيد صياغتها وفق مقتضيات اسراتيجيتها.
ها هنا تماماً، بدا التاريخ جهيضاً، مكسوراً أمام هذا الواقع الثقيل، بدا التاريخ لقيطاً مشرّداً وقيد الأسر. وعلى التوازي بدا الواقع الممتلئ «إسرائيلياً» في ذروة حضوره وطغيانه الناسف، افتراضاً، أيه إمكانية لمقاومته والوقوف في وجهه. بدا خيال المقاومة لوهلة باهتاً، ضعيفاً، فاقداً قدرة التجسّد فعلاً وإرادة.
وها هنا أيضاً وتماماً، في ذلك الصيف الملتهب، وقعت ثلاثة أحداث بثلاثة تواريخ مختلفة. أحداث يجمعها أنَّ تواريخها كلّها تبدأ بالرقم 4 دائماً، وأنّ من قاموا بها وأنجزوها هم أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
الحدث الأول: 24 تموز 1982، قام سمير خفاجة وفيصل الحلبي بإطلاق صواريخ وصلت إلى شمال فلسطين.
الحدث الثاني: 14 أيلول قام حبيب الشرتوني بتدمير مقرّ قيادة القوات اللبنانية التي يقودها بشير الجميّل المرتبط بشكل مباشر بقيادة جيش الاحتلال «الإسرائيلي».
الحدث الثالث: 24 أيلول 1982 قام خالد علوان بقتل ضباط «إسرائيليين» في مقهى الويمبي في بيروت.
نترك السؤال في ما إذا كانت التواريخ المنتقاة لهذه الأحداث والتي تبدأ بالرقم 4 هي مجرد مصادفة محضة أم ثمّة قصد من ورائها؟! نترك هذا السؤال جانباً وإنْ كانت مصادر تلمّح إلى إعادتها إلى مخطط محكم تحت مسمّى «الزوايا الأربع» وهي زوايا الزوبعة الحمراء، نترك هذا السؤال وندخل في صلب الأحداث ومآلها.
الحدث الأول أسقط الفلسفة الاستراتيجية للاجتياح التي أعلنها آرييل شارون تحت عنوان: سلامة الجليل.
والحدث الثالث أسقط جبروت جيش الاحتلال وطغيانه باحتلال عاصمة مثل بيروت، ظلَّ شارون يطلب باستمرار من بشير الجميّل افتعال أيّ حادث يمكن أن يشكل ذريعة تمكن الجيش «الاسرائيلي» من اعتمادها في عمليته. والحدث الثاني أسقط «النسخة اللبنانية» من الاحتلال «الاسرائيلي»، وأجهض إمكانيته على إنتاج صيغة تابعة له ومن «محمياته» وتالياً ثم إسقاط «الحقبة الإسرائيلية» برمّتها.
هذه الأحداث الثلاثة، شكّلت الأثافي التي مكّنت المقاومة من بناء عمارتها مدماكاً إثر مدماك. هذه الأحداث أعادت، في تلك اللحظة الاستثنائية، تخصيب خيال المقاومة، وضخت نسغاً جديداً في شرايينها المتيبّسة، فعاد النبض إلى قلبها والنور إلى عينيها والأمل والإرادة إلى روحها وعقلها، فالتهبت مواقعها وبدأت رحلتها في مواجهة الاحتلال وخاضت معارك انتصاراتها المتوالية التي وصلت إلى محطات كبرى وذروات شاهقة في العام 2000، والعام 2006، وها هي تواصل معاركها في برّ الشام والعراق ضدّ جحافل الإرهاب المندرج في إطار استثمار استراتيجي عالمي، كما لا تزال المقاومة تقف في مواجهة «إسرائيل» في لبنان في ميزان استراتيجي تشير معطياته إلى تكافؤ ردعي في محصلات القوة.
في هذا المدى التاريخي الكبير لمثل هذه الأحداث، يبدو من الخطأ الجسيم البحث عن عفو يشمل حبيب الشرتوني، كما من الخطأ الجسيم أيضاً البحث عن جواب لسؤال من مثل: لماذا لم يشمل قانون العفو الصادر عن الدولة اللبنانية عن الجرائم المرتكبة أثناء الحرب الأهلية.. لماذا لم يشمل حبيب الشرتوني؟؟
سأقول لماذا، ولكن من المؤكد أن مَن أصدر القانون في ذلك الوقت لم يكن يقصد ما سأقوله حتماً.
حبيب الشرتوني لم يشارك في الحرب الأهلية اللبنانية، فهو لم يحمل سلاحاً ويحارب في معارك مع ميليشيات محلية. وهو لم يقف على حاجز تفتيش في هويات المواطنين،ـ لم يخطف أحداً ويساوم عليه، لم يهجّر أحداً من بيته، لم يطلق قنابل عشوائية على مناطق بعيدة أو قريبة، لم يستعمل قناصة ويتسلّى بتلاميذ المدارس العابرين إلى المستقبل، الذين أردى الكثيرين منهم قناصو الحرب الأهلية… هو لم يسرق متجراً ولا بيتاً ولا معبداً ولا سيارة… ولا لوح شوكولا واحد أو رغيف خبز واحد..
حبيب الشرتوني كان خارج نطاق ومدى الحرب الأهلية، والحدث الذي أنجزه، بموقعه ووظيفته وأشخاصه، لا يمُتّ لهذه الحرب بهذا المعنى. هو حدث وعملية تنتمي إلى مدى الصراع مع «إسرائيل»، إنها إحدى الملاحم الكبرى في المعركة المفتوحة مع الاحتلال، إنها عملية استهدفت موقعاً «إسرائيلياً» لا موقعاً لبنانياً بكلّ ما للكلمة من معنى.
لذلك، يجب أن يتوقف البحث الحقوقي الميكانيكي المجرد، عن إيجاد عفو عن حبيب الشرتوني، لأنه لا يحتاج إلى «الرأفة» به واستيعابه، وكأنه عميل هارب مع جيش الاحتلال.. عارٌ وألف عار أن تشمله مثل هذه التسميات والأوصاف.
حبيب الشرتوني يحتاج أن يستكمل انتصاره في ذلك الموقع «الإسرائيلي»، في انتصار معنى الحدث الذي أنجزه في العقل الاجتماعي وفي الثقافة القومية.
إنَّ أيّ قرار صادر عن أية محكمة أو مجلس قضائي ينال منه ويعتبر عمليته محكومة بمنطق «قاتل ومقتول»، إنّ أيّ قرار من هذا النوع هو وجه من وجوه المعركة المفتوحة مع «العصر الإسرائيلي» في تأثيراته الثقافية والحقوقية والسياسية، وهو موازٍ بمعناه ومآله الأخير وطبيعته للمعركة التي تخوضها المقاومة في برِّ الشام.
وعلى ذلك يمثل الحكم الصادر على حبيب الشرتوني وجهاً من وجوه تكفيره، فيما يمثل الحكم على نبيل العلم نوعاً من التمثيل بجثته.
إنه صراع مستمرّ بين وقفات العزّ وفصل العار…