فعل التأسيس: اللحظة الخطيرة في تاريخ سورية
داليدا المولى
لحظة خطيرة تلك التي وقفها أنطون سعاده وهو يفتتح دعوته للعقيدة. تلك الإرادة كانت أوّل فعل استقلالي حقيقي في الأمة السورية منذ أكثر من ألفي عام. لا يمكن الفصل بين السياقات التحرّرية في سورية، فهي موغِلة في الذاكرة الجمعية، إنما كلها كانت تستهدف التحرّر من المستعمر من دون نظرة فلسفية واضحة للحياة والكون والفن، ومن دون أن تكون مبنية على تقييم واعٍ للمجتمع ومقدّراته، ولا شكّ في أنّ بعض هذه التحركات أهمل الجغرافيا لصالح العمل النضالي، أو اتخذ الدين مساحة جغرافية للعمل.
سعاده شكل بما وضعه سياقاً أعاد للأمة ما لها وكشف عن الهوية السورية والنظرية الاجتماعية الأساس في تطوّر المجتمع ألا وهي القومية الاجتماعية. قلب المعادلة فجأة، باتت حركة التحرّر، سورية، وقومية اجتماعية، وبات هناك نظام فكري واضح يمكن أن يشكل رافعة سيادية وتوسعية للوطن السوري من دون أن يتوسّل نظريات غريبة عن واقعنا وتفكيرنا ومن دون أن يتجه للتطرف الديني أو للبعد الديني في مقاربة الأمة حتى يحظى بالجماعة. أتى الطرح واضحاً لا لبس فيه، فالقومية الاجتماعية مدرسة فكرية تتكامل والنظرة السورية الأصيلة لأركان المجتمع وللقوانين والآليات التي تحكمه.
اللحظة الأخطر في تاريخ الرجل العظيم، هي تأسيس الشكل الذي سيحمل الفكر حتى لا يبقى الأخير من دون حركة ويهمل بفعل جموده.
هنا كان لا بدّ من إنشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي، حيث أدرك سعاده أنّ الأفكار مهما عظمت تبقى بحاجة لإطار عملي يمكن أن يحدث تغييراً عبرها وفيها. فالمعارف تتطوّر والمفاهيم تتطوّر وهذا لن يستثني أحداً، لذا وضع منطلقات فكرية ثابتة وأخرى تحتاج لتطوير وبحث ودراسة. هذه المرونة في فكر سعاده كانت الأساس في بقاء هذا الفكر صالحاً لمجتمعنا حتى اللحظة.
شكّل تأسيس الحزب نقطة التحوّل الأخيرة في منظومة سعاده، من الفوضى إلى النظام، من العمل العبثي إلى العمل الهادف، من الدروب المختلفة الى درب توحيد سورية، وباتت غاية الحزب هي المشروع الأكبر الذي ستنضمّ تحته برامج ومشاريع ظرفية إنما محكومة بالغاية الأساس. وباتت شخصية المؤسّس صورة عن الشخصية المعنوية للمؤسسة فلا ينفصل سعاده عما أسّسه ولا ينفصل ما أسّسه عن نهجه وفكره.
نجد هنا المعيار الأهمّ في العمل القومي الاجتماعي، لا انفصال بين المؤسّسة والمؤسّس، لا انفصال بين الحزب وزعيمه، لا انفصال بين الشكل والنظام والفكر…
الاستهدافات كانت ولا زالت واضحة، هي في صوغ ما يخدم الأمة وحزب سعاده، وكلّ ما يخرج عن هذه القاعدة يغدو تشتيتاً لقدرات القوميين الاجتماعيين وعملهم… أراد سعاده تأسيس الحزب ووضع نظمه القانونية ليؤكد أنّ الأفكار لا تحيا بالذاكرة فقط بل تحيا في المؤسّسات، ورغب عبر سلسلة القوانين تأكيد منظمة متكاملة من الحقوق والواجبات التي يخضع لها كلّ قومي اجتماعي في الحزب لتكوّن معايير عمل وبناء متماسك داخلياً يمكنه من الصمود بوجه الأزمات، التي أدرك سعاده جيداً أنها حادثة لا محالة، وليعبّر هذا البناء في وقت لاحق عن تطلعات المجتمع وحاجته.
أراد سعاده الحزب السوري القومي الاجتماعي نموذجاً عن الدولة السورية المبتغاة. نموذجاً يحكمه القانون، حزب المؤسسة الواحدة، حزب مناهضة الفساد، حزب الصراع والتحرير، حزب المجتمع والعمل على تلبية حاجات أبنائه. أراده حزب القيم، حزب النظام والواجب والحرية والقوة، حزب الإبداع والفن الذي ينتمي لسورية ويعمل لصالحها ويعبّر عن شخصيتها.
بعد 85 عاماً ننظر بعين الفاحص لمجتمعنا ونرى ما رآه سعاده… هذا التدهور القيمي والمناقبي والانتمائي والهوياتي نتيجة عوامل عدّة عمل عليها الغرب لتجهيل الأمة السورية بشكل عام وسلخها عن تاريخها ومحاصرة حاضرها وتقييد مستقبلها، يضع مزيداً من الأثقال على عاتق القوميين الاجتماعيين، ويتطلّب منهم تفعيل خطتهم أكثر فأكثر.
القوميون الاجتماعيون ليسوا تراكماً، هم حاجة هذا المجتمع للبناء على أسس سليمة للتغيير المدروس والممنهج. هم ليسوا أتباعاً لإرادات أجنبية، بل هم عنوان لحرية القرار والسيادة والعنفوان، هم ليسوا طارئين على هذا المجتمع بل نواته الوحدوية ومستقبله بلا نزاعات لا طائل منها سوى تكديس التشرذم والانقسام والفئوية.
القوميون الاجتماعيون بما يمثلونه من مبادئ وغاية، يشكلون حركة نهضوية فعلية عمادها الواجب، وعملهم يقوم على انسجام الإرادات في مصلحة واحدة، وهم خير دليل على إمكانية هذا المجتمع في إيجاد سياق تحرّري اجتماعي وفكري نواته القومية الاجتماعية التي تحمل في طياتها الحلول المستعصية ورداً مباشرة على الأزمات الطارئة في مجتمعنا.
وكيل عميد شؤون عبر الحدود
في الحزب السوري القومي الاجتماعي