الفنان عبد الرحمن أبو القاسم: فلسطين محفورة على الصدور… والبلاد تحتفي بمبدعيها في «كان»!

حاوره: طلال مرتضى

توقّفت مليّاً أوّل السطر، كنت على نيّة فتح فرجار الكلام على مصراعيه، ولكنّني توهلت حين داهمني السؤال المكين، بأيّ آلاء الرجل أحدّث؟

حين سبرت ساعات وقوفه على الخشبة تحت دائرة الضوء وجدتني مربكاً. فالعدّ لم يطابق المعدود، لهذا هجست بأن الصورة هي الأكثر دلالة. هنا خالطت في رأسي الأدوار التي شخصنها والعصور التي جسّدها فتوهّلت!

عندما استفقت من غيبوبة الهجس، ضحكت حتى بانت نواجذي، حريّ بي أن أجعل هذه الدوامة منذ المطلع الأوّل للكلام أن تقف، كان يكفي أن أقول لجمهور القراءة إن ضيفي هو الفنان العربي الشامل عبد الرحمن أبو القاسم وأضع نقطة خاتمةً السطر.

مثل فزّاعة حقل وحيداً تعصف بك الريح… عبد الرحمن أبو قاسم حارس المسرح السوري الفلسطيني، أما مللت عناد العاصفة؟

ـ هذه العاصفه التي أحبّ لأنها تعصف بكلّ ما هو نصف موهوب ليكون موهوباً قادراً على تغيير محيطه، ومحطته التي يقف عليها. المسرح يا سيّدي، مدرسة الشعوب ومربّي جيل كامل وتوجيهه إلى ما هو أفضل. نحن يا صديقي مسكونون بالمسرح، لأنه كما ذكرته لك ومن خلاله نقوم على توجيه رسائل إعادة تنظيم الكون ورؤيته من منظار مختلف.

من خلال المسرح السوري والفلسطيني أظنّ أننا حقّقنا هذا التواصل إلى حدّ ما، وعلى جيل الشباب الآن أن يكملوا المشوار.

حين ركب الجميع عتلة الإبحار بعيداً… عبد الرحمن أبو القاسم وعبر «تغريدة أبو السلام» كان لسان حاله يردّد من دمشق: «هنا باقون»؟

ـ «تغريدة أبو السلام» هي بانوراما عن الوضع الفلسطيني في الشتات، وهي تحاول ان تجد طريقاً لعودة الشباب الفلسطيني والسوري معاً إلى الديار، لأن هذا البلد بحاجة الآن إلى إعادة إعمار أكثر من أوروبا. أبناؤنا هاجروا ليبنو أوروبا التي شاخت وتركوا أوطانهم تنتهكها الغربان الصهيو ـ أميركية.

الرسالة كانت واضحة من «أبي السلام» والتي هي بتوقيع الأديب داود أبو شقرا، ألا وهي كيف نحفز أبناءنا للعودة مجدداً.

جلّ النجوم الذين تعرّفنا إليهم عبر الشاشة السورية الصغيرة، ولدوا من رحم المسرح، هجروه وتشبثوا بفتنة الضوء… وحده عبد الرحمن أبو القاسم بقي أميناً للخشبة ولم يقطع بعد حبل السرّ؟

ـ ليس كلّ نجوم الدراما خرجوا من رحم المسرح، كثيرون هم الذين تخرّجوا من المعهد العالي للفنون المسرحية، ذهبوا إلى التلفزيون مباشرة. والقلّة وهم من الجيل القديم الذين تخرّجوا من خشبة المسرح، فعلاً وللحق الفرق واضح بين هؤ ء وأولئك.

الجيل القديم عانى الفاقة وعانى الكثير حتى تمكن من إكمال المشوار، و أريد الخوض في تلك التفاصيل لأنها بحق مخجلة، ولكنهم كانوا مضطرّين لها، وذلك بسبب حاجتهم لإعالة أسرهم، لكن في ما بعد تحسنت حياة الفنان عموماً بعد دخول التلفزيون في الخدمة، على رغم أن بداية التلفزيون كانت مضنية أيضاً، إذ كانت تسجل الحلقة التلفزيونية مرة واحدة من دون توقف، وإذا ما حدث خطأ من أحد الممثلين كان يعاد تصويرها مرّة أخرى من البداية، لذلك كان العمل مضنياً لأنه إذا أخطأ ممثّل أو أكثر كان يعاد التصوير عدّة مرات. أما الآن فالظروف اختلفت كلّياً، التكنولوجيا الحديثة تقوم على خدمة الفنّ والفنان معاً.

في ظلّ أزمة البلد، خرج جلّ الممثلين السورين… عبد الرحمن أبو القاسم بقي، كان يمكنه أن يؤسّس امبرطورية فنية لو قبل الخروج؟ وهل الذين عرفناهم في أدوار وطنية، بالفعل لم يكونوا وطنيين بل ممثلين؟

ـ أنا للحق… أسّست وما زلت امبراطورية في البلد الذي فتح ذراعيه لي منذ سفر الخروج المشؤوم. كما أنني لم أخرج من بلدي سورية لأنني باختصار، أخلع صاحبي.

أما عن الممثلين الذين غادروا الوطن فدعنا نظلمهم جميعاً ونضعهم في الكفة ذاتها، هناك من خرج يبحث عن سبل العيش ا فضل، لأنه اعتقد أنّ أوروبا بلاد السمن والعسل، فاصطدم بواقع مرّ. وبعضهم وجدوا ضالتهم هناك، وآخرون يبدو أنهم تقاطعوا مع السلطة ففضّلوا الخروج.

وأما من شاهدتموهم في أدوار وطنية ليسوا وطنيين، فلا أظنهم كذلك و يمكننا فصل المواطن عن وطنه مهما اختلفنا معه في وجهات النظر، وإ كنا اعتبرناك أنت أنك لست وطنياً ونحن نعرفك تماماً ونعرف أشعارك التي كنت تتغنّى فيها بالوطن.

بالتأكيد.. لم يكن سؤالي عمومياً وقد عنيت ممن تنكروا لملح البلاد.. ليس إلا.. هناك من يقاتل بكل ممكناته في المغترب لنصرة سورية، رددت عليّ سؤالي!

ـ طبعاً و أشكّ في أنّك تعرف ذلك، الوطني يتغير ويظل يناضل من أجل وطنه أينما وجد وأنت واحد منهم.

ذات زيارة إلى فلسطين صلّى عبد الرحمن أبو القاسم العصر حاضراً في كنيسة القيامة في بيت لحم!

ـ نعم صلّيت صلاة العصر في الكنيسة، قلت وقتذاك للخوري المسؤول وهو يوناني الجنسية ويتحدّث اللغة العربية بصعوبة: يا أبانا، لقد جاءتني صلاة العصر وأنا في الكنيسة، فهل لي أن أصلّي هنا؟

أدهشني حين ردّ قائلاً: يا بني، هذا بيت الرب وليس بيتي، صلّ كما تشاء.

فوالله صلّيت في محراب السيد المسيح الذي اتّسع لي بصعوبة، وأقسم أنني ما أردت من وراء هذا إ توجيه رسالة دينية إلى كلّ الديانات، أننا كلّنا عباد الله وأنّ الكنيسة تختلف عن المسجد. ولن أحدّثك كم من الزوّار مختلفي الديانات الذي التقطوا لي صوراً تذكارية، كنت حريصاً أن أقول: نحن والمسيحيون أخوة و يفرق بيننا ديناً و دنيا.

في تلك الزيارة، عرفت أنّ «شتلة» ياسمين دمشقية قد أُسِرت على المعبر ومُنِعت من دخول فلسطين؟

ـ نعم، كانت في المجموعة صبية وكان والدها قد استشهد في فلسطين، فحملت معها شتلة ياسمين من دمشق لتزرعها كتذكار لوالدها على تراب الوطن. على الحدود، وبعدما تخطّينا جسر الملك حسين ودخلنا إلى الجانب الفلسطيني المحتل من الحدود، أوقفوا كامل المجموعة بسبب شتلة الياسمين هذه، ولم يُجدِ أيّ كلام مع العسكر ولم يسمحوا بدخول الصبية إ بعدما اعتقلوا شتلة الياسمين.

وسمعت أيضاً بأمّ أذني عبر تسجيل الفيديو للزيارة، صرخات الدكتور برقاوي الذي ولد في دمشق، يقول: هذي دار سيدي جدّي … إلى هذه الدرجة تلك الارض محفورة في الصدور؟

ـ أما بالنسبة إلى الدكتور برقاوي الذي كان ضمن المجموعة، فقد كنت إلى جانبه عندما ذهبنا لزيارة قريته طول كرم. عندما دخلنا القرية صار يوجّه صديقه الذي يقود السيارة: «اِذهب إلى اليمين الآن ثم إلى اليسار… … … اِمشِ الآن بشكل مستقيم… انتظر… انتظر… هذه دار سيدي… خلص أنا وصلت… وصلت… صلت».

وأجهش حينذاك بالبكاء، وفعلاً تعرّفنا هناك إلى بعض أقاربه ودار بينهم حوار لم أسمع بمفرداته من قبل. نعم، الدكتور لم يُولد هناك، إنه من مواليد دمشق، ولكن طول كرم محفورة في ذاكرته من خلال حديث الآباء والأجداد، وهذا إنما يؤكد ان الشعب الفلسطيني لن ينسى فلسطين، بل لن ينسى موقع بيته هناك، لأن الآباء حفروا تلك الصورة في ذاكرة أبنائهم.

كلّما تحدّثت إليك تخنقني عَبَرة الشوق والذكريات لخيمتي في الحجر الأسود، هل سنشرب مجدّداً من قهوتها المرّة؟

ـ مؤكّد يا بني… أتمنّى ذلك كما أتمنى عودتك قريباً إلى حضن الوطن.

عبد الرحمن أبو القاسم ذاكرة وطن، ما بال أوطاننا لا تحتفي بذاكرتها؟

ـ يا سيّدي، بلادنا تحتفي بذاكرتها مع كلّ المبدعين و تستثني أحداً، ولكن بعد أن يودّعونا إلى العالم الآخر، فيقولون: كان… وكان… وكان… أي أنه صار فعلاً ماضياً!

كاتب سوريّ/ فيينا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى