«محمد الماغوط في مدن الغرباء»… ندوةً في مكتبة الأسد الوطنية
دمشق ـ لورا محمود
تميّز بفرادة حضوره وتجربتيه الشعريّة والمسرحيّة، العاطفة والشعر توأمان سياميّان باعتقاده، يعيشان معاً، يموتان معاً. هما باب كلّ نوافذ الوصول السهل إلى الناس. فكتب سيناريوات فيلمَي «الحدود» و«التقرير» ومسلسلات تلفزيونية مثل «حكايا الليل والنهار» ومسرحيات مثل «كاسك يا وطن»، التي نجح فيها بالتعبير والكتابة الكوميدية الساخرة ـ الباكية في آن. إضافةٍ إلى مقالاته الصحافية الناقدة والساخرة.
محمد الماغوط، الأديب المتمرّد الثائر والعاشق الذي يرى في المرأة المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها. هو واحدُ من أهمّ روّاد قصيدة النثر في العالم العربي. وتكريماً لفنّه وإبداعاته، أقيمت ندوة بعنوان «محمد الماغوط في مدن الغرباء» في مكتبة الأسد الوطنية في دمشق، برعاية وزارة الثقافة السورية.
بدأت الندوة بكلمة للفنّان الكبير دريد لحّام تحدّث فيها عن علاقته بالأديب الماغوط فقال: بدأت معرفتي به عام 1973 عندما التقينا صدفةً في نقابة الفنانين، تحدّثنا حينذاك، وجمعتنا وحدة الأفكار والرؤية، لأسباب نكسة حزيران 1967، ثم اتفقنا أن نعرض هذه الرؤية على الجمهور في عملٍ مسرحيٍ، فكانت مسرحية «ضيعة تشرين» تلتها مسرحيتَي «غربة» و«شقائق النعمان».
وبدوره، أدار الدكتور إسماعيل مروة الندوة قائلاً: عندما التقيته سألته لماذا يُنفروننا منك الذين يحيطون بك؟ قال لأنهم لا يجدون التعامل مع الصدق. يقولون إنّ محمد الماغوط لا يسمح لك بالاقتراب منه، له مزاجه وانقلاباته. لكن حين اجتمعت به لم أجد ذلك بالماغوط بل العكس.
وأضاف مروة: الماغوط اختارالحزب السوري القومي الاجتماعي لأن الحزب بحسب قوله لديه مدفأة، حزبٌ قادم من تلك المدينة «سلمية» المكتظّة بالمثقفين، جاء ليتوه في مدن الغرباء. وفي عام 1957 عندما أُسّست مجلة «شعر» كان الماغوط رائد القصيدة فيها، وأسّس لقصيدة لم يبرع فيها أحد قبله. حين ودّعنا بقيت قصيدة النثر يتيمة لذلك الماغوط الذي يستحق التكريم.
وتحدث الدكتور عبد الله الشاهر إلى «البناء» وقال: إنّ خطّ الماغوط جريء، فهو أول من تجرّأ على اعتماد النمط الشعري وانتفض على ما يجري في المجتمع من ظلم واستبداد، فعرّى الخطأ واغترب عن كلّ ما حوله، وهذا ما أدّى به إلى الضياع والتشتّت.
وأضاف الشاهر: اليوم سأتحدّث عن الغربة التي جعلت من الماغوط مناقضاً لواقعه الاجتماعي، هذا انعكس على نتاجه الأدبي. فقد أنتج «ضيعة تشرين» و«الفرح ليس مهنتي». نحن لا نلمح في نتاج الماغوط شيئاً من الفرح لأن حساسيّته كانت عالية، لذا لم يجد حالة فرح واحدة في حياته ولكنه رغم ذلك أنتج لنا شعراً ونثراً وأدباً مهماً.
وفي الندوة أشار الشاهر إلى أن الماغوط منذ مجموعته الأولى «حزن في ضوء القمر» أعلن عصيانه وتمرّده وتشرّده ورحل حاملاً سرّ غربته وإبداعه. ذاق معنى الغربة داخل الوطن وخارجه، لكنّ الوطن ظلّ محطّة أساسية في شعره، ففي الوطن ذلك التراب الذي يسري في دمه، عقدة ذنبه التي لم تنته. عانق الوطن بيديه، كتب عنه «سأخون وطني» وكانت عبارة عن قصص خيانات معلنة للوطن.
وتابع الشاهر: الماغوط عاش عصر الاغتراب في مرحلة من أكثر مراحل تاريخنا العربي اضطراباً وهيجاناً، فاهتزت عنده المقاييس الفكرية والاجتماعية ووجد نفسه أمام مجموعة من التناقضات، فجاء نصّه الشعري مشابهاً لتلك الفترة.
الغربة كانت الملجأ الحتمّي للماغوط الذي كان في صِدام مستمر مع وجوده، قدّم رؤيته من خلال تقنيات متعدّدة أبرزها التصوير والترميز، فالرمز شكّل نصف البناء الرؤيوي لشعره. ولعلّ ما يميّز تجربة الماغوط أنها تجربة إشكالية تعتمد الانفتاح النصّي والتراكم الدلالي في سرد الأحداث وتكديس الصور الشعرية تكديساً تراكمياً سردياً. وقد توافق هذا الأسلوب مع غربة الشاعر الذي وظّف نصّه وتجربته الشعرية لتعرية ما يدور في داخله من أفكار ومشاهد، كاشفاً بذلك عن تناقضات الواقع وصراعاته المأزومة، معتمداً على تكثيف الرؤى الاغترابية بإيقاع عاطفي هزيل بحسب ما أشار الشاهر.
وتحدّث حسام خلوف عن الماغوط وإشكالية الهوية وقال: إن توصيف الماغوط هويته بأنّها «كرتونة»، يعكس مدى سخطه من سطوة الاسم الشخصي على كينونته المنفردة. فليس عدلاً أن يتم اختزال الإنسان في بضع مفردات لغوية موروثة عن هوية الأب، لنقوم بالتعريف عنه أينما حلّ ونزل. وأمام سطوة الهوية اللغوية على الذات الإنسانية قرّر الماغوط أن يتوخّى الحذر وهو يسمي ابنه فاختار له اسماً يعتقه من أي تبعات دينية أو اجتماعية أو عرقية مسبقة.
وأشار خلوف إلى أنّ إدراك الماغوط سطوة الاسم واللغة على الذات بدأ مبكراً منذ كان طفلاً، إذ ورث من هوية أبيه صفة فلّاح، وهي صفة دنيا داخل التراتبية الطبقية في مجتمع «سلمية»، حيث كان السادة الإقطاعيون هم رأس الهرم، لذا تمرّد الماغوط ضدّ الخلل الطبقي وما يفرضه عليه من فقر وجوع وخوف وضدّ مفردات هويته الشخصية.
وختم خلوف بقوله: بهذه الكيفية ولد محمد الماغوط الشاعر ليكتب بطريقة استثنائية مستخدماً اللغة ضدّ اللغة، الكلمة ضدّ الكلمة، الشعر ضدّ الاسم والهويّة الشخصية، حيث ستتخلل إشكاليّة الهويّة والذات كل الأجناس الأدبية التي كتب فيها أي المسرح والسينما والرواية والشعر.
وعن سؤال حول واقع الأعمال الفنّية التي تحمل الأسلوب النقدي الساخر المشابه لأسلوب الماغوط وترتقي بعقل المشاهد، أجاب المخرج علاء الدين كوكش: للأسف، اليوم لا أعمال تشابه ما قدّمه الماغوط. فأفكار الماغوط لامعة وحاضرة ومن الصعب على أيٍّ غيره أن يكتب ما يشبهه. فهو لديه موهبة شعريّة كوميدية استثنائية.
وأضاف كوكش: اليوم هناك انحدار عام سواء في الدراما أو الكوميديا رغم حاجتنا لهذا النوع من الأعمال التي برع الماغوط فيها، فقد كان صاحب نظرة ناقدة وساخرة وثاقبة أيضاً. وفرادته كانت في قربه من الناس وتقديمه الأفكار بلغة بسيطة وعميقة. لذلك أحبّ الناس الماغوط في كل ما كتبه سواء في الشعر أو المسرح أو التلفزيون.
وعن التجربة الفنّية التي جمعت كوكش والماغوط قال: الماغوط ترك إرثاً كبيراً في الشعر والأدب والفنّ لذا هو حاضرٌ معنا.
ولفت كوكش إلى أن هاجس الحرّية كان كبيراً لدى الماغوط حين قال: «عندما حلمت بالزهور، واستيقظت، رأيت فراشي مليئاً بالزهور، وعندما حلمت بالحرّية رأيت الحراب تطوّق عنقي».
وأضاف كوكش: لقد عملت مع الماغوط في مسلسل «حكايا الليل والنهار»، فهو كان يريد تقديم مجموعة أفكار في عمل تلفزيوني، وكتبنا عشرين حلقة، وكل حلقة كانت تبدأ بمقطع من قصيدة للماغوط مع تسجيل صوت وصورة له. لكنّه رحل قبل أن يرى العمل كلّه على التلفزيون، وهذا كان العمل الأخير له من إخراجي.
يذكر أنّ محمد الماغوط شاعر سوري من أبرز شعراء قصيدة النثر في العالم العربي، ولد في مدينة سلمية الواقعة في محافظة حماة، وتلقّى تعليمه الثانوي في إحدى المدارس في ريف دمشق. انتمى إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي منذ شبابه، ما تسبّب في دخوله السجن مرّات عدّة. عاش الماغوط في بيروت فترة طويلة من حياته، وهناك تعرّف إلى زوجته سنية صالح.
عمل في عدد من الصحف السورية والعربية، وكتب عدّة دواوين شعرية، فضلاً عن تأليفه بعض المسرحيّات السياسية الساخرة التي انتقد فيها الأوضاع في سورية والعالم العربي.
من أعماله الشعريّة والمسرحيّة والسينمائية: «حزن في ضوء القمر»، «العصفور الأحدب»، «الحدود»، «وادي المسك»، «خارج السرب»، «سأخون وطني»، و«كاسك يا وطن».
نال جائزة «احتضار» عام 1958 وجائزة «جريدة النهار اللبنانية لقصيدة النثر» عن ديوانه الأول «حزن في ضوء القمر» عام 1961. كما حاز على وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة من رئيس الجمهورية السورية بشّار الأسد
وجائزة «سلطان بن علي العويس الثقافية للشعر» عام 2005.
توفّي في دمشق عام 2006 عن عمر ناهز 72 سنة.