أيّهما أجدى: عودة الحريري إلى لبنان أم عودته عن استقالته الملغومة؟
د. عصام نعمان
قيادات وهيئات وجماعات وحكومات في بلاد العرب ودول العالم طالبت السعودية بوقف احتجاز رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري وإعادته إلى لبنان. الحريري ردّ في مقابلة تلفزيونية أنه عائد إلى بيروت خلال بضعة أيام. أكّد الأمر نفسه للبطريريك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أثناء زيارته الرياض، لكنه لم يَعُد. ذلك حمل الرئيس ميشال عون على التأكيد بأنّ الحريري محتجز، وأنه لن يبّت استقالته إلاّ بعد عودته، وعائلته المحتجزة مثله، إلى البلاد.
بعضُ الذين طالبوا بعودة الحريري فعلوا ذلك لضرورة احترام الدستور والعرف، وذلك بتقديم استقالةٍ خطيّة في لبنان. بعضهم الآخر قال، مباشرةً أو مداورةً، إنّ الحريري أُكره في الرياض على تقديم استقالةٍ ملغومة، وانّ عودته إلى البلاد توفّر له الحرية لبيان أسبابها الحقيقية أو، ربما، للعودة عنها.
إزاء تعاظم مطالبات الإفراج عن الحريري واحتمال إثارة مسألة احتجازه غير المشروع في اجتماع مجلس وزراء الخارجية في جامعة الدول العربية، استدركت الرياض انعكاسات فعلتها المستهجنة بإهداء الإفراج عن رهينتها السياسية إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي دعا الحريري وعائلته إلى ضيافته في باريس، حيث هم الآن.
في موازاة قضية الإفراج عن الحريري واحتمال عودته عاجلاً أو آجلاً إلى البلاد، نشأت قضية أخرى هي عودته عن الاستقالة أو تمسّكه بها، وبالتالي عودته إلى رئاسة الحكومة أو عدم عودته إليها.
الملاحظ أنه مذّ أعلن الحريري في مقابلته التلفزيونية اعتزامه العودة خلال بضعة أيام، وأركان تياره وكتلته النيابية يؤكدون مراراً وتكراراً انّ عودته هي أولوية مطلقة، وانه هو لا غيره مرشحهم الوحيد لإعادة تأليف الحكومة، إذا ما جرى قبول استقالته.
لا شكّ في انّ عودة الحريري إلى البلاد قضية بالغة الأهمية وأنّ من حق المطالبين بعودته، إنْ لم يكن من واجبهم، اعتبارها أولوية أولى. لكن الحريري أورد في بيان استقالته كما في مقابلته التلفزيونية أسباباً لها، وبدا متمسكاً بها، بدليل قوله في المقابلة إنّ عودته عن الاستقالة مرهونة باحترام والتزام سياسة «النأي بالنفس». مشاهدو المقابلة التلفزيونية فسّروا النأي بالنفس، بحسب مفهوم الحريري، بأنه يعني مقاطعة سورية والابتعاد عن حربها وعن أطراف محور المقاومة وحلفائه. فوق ذلك، تبنّى الحريري في بيان استقالته كما في مقابلته التلفزيونية مزاعم الرياض بأنّ حزب الله «انتهك» سياسة النأي بالنفس بمشاركته في الحرب بسورية إلى جانب حكومتها، وفي اليمن ضدّ حكومة عبد ربه منصور هادي التي تحتضنها السعودية، وأنه درّب الحوثيين على إطلاق صاروخ باليستي على مطار الملك خالد في الرياض.
كلّ هذه الواقعات والاتهامات تُضفي على قضية عودة الحريري عن استقالته أهمية تضاهي أهمية المطالبة بعودته إلى البلاد إنْ لم تكن تفوقها. لماذا؟
لأنّ الحريري أورد أسباباً للاستقالة طلبتها السعودية وحرّضت على ضرورة فرض متطلباتها، ودعت بموجبها الى إخراج وزراء حزب الله من الحكومة كضمانة لالتزامها واحترامها. لذا يستقيم التساؤل عن الفائدة التي ترتجيها الرياض من عودة الحريري إلى البلاد، إنْ لم تقترن استقالته بتدبيرٍ أجدى لها من الاستقالة، وهو التمسك بسياسة النأي بالنفس عن سورية وإيران وقوى المقاومة وحلفائها بغية إخراج حزب الله من الحكومة والانخراط في نهج التصدّي لإيران وحلفائها على مستوى المنطقة برمّتها.
إلى ذلك، جاءت زيارة البطريرك الراعي إلى السعودية واجتماعه إلى الحريري لتؤكد أمراً وثيق الصلة بمسألة عودته عن الاستقالة، كما باحتمال إعادة تكليفه تأليف حكومة جديدة. فقد صرّح البطريرك الراعي أنه يتفهّم أسباب استقالة الحريري، فيما بعض وسائل الإعلام قال إنه يؤيّدها أيضاً. هذه الإشارة إلى أسباب الاستقالة تؤكد أنّ الرجلين تدارساها وأنّ الحريري متمسّك بها، وقد يشترط اعتمادها أساساً لعودته عن الاستقالة. كما تعني، ربما، أنّ البطريرك الماروني سيقف إلى جانبه في هذا المجال الأمر الذي يتعارض مع موقف الرئيس عون، حليف حزب الله، الذي يصرّ على عودة الحريري، وعائلته المحتجزة، أولاً ومن ثم يُصار الى بحث أسباب الاستقالة الملغومة.
في ضوء هذه الملابسات والتطوّرات، تنهض أسئلة مفتاحية: كم ستطول إقامة الحريري في ضيافة الرئيس الفرنسي؟ وماذا لو تمسّك بأسباب استقالته ودعواه بأنه جرى «انتهاك» سياسة النأي بالنفس؟ ماذا لو عارضه سائر الأطراف، وطالت المماحكات بين أطياف المشهد السياسي اللبناني أشهراً لغاية اقتراب موعد إجراء الانتخابات في 6 ايار/ مايو المقبل؟ هل يغامر الرئيس عون وسائر أركان الدولة وزعماء التكتلات النيابية بإجراء الانتخابات في ظلّ حكومة مستقيلة ليس لها من صلاحيات سوى تصريف الأعمال؟ وهل يجوز أصلاً إجراء الانتخابات في ظلّ حكومة تتولى تصريف الأعمال بأضيق الحدود؟ أم يستبق الرئيس عون مخاطر البلبلة والفوضى باعتماد خيار تأليف حكومة تكنوقراط للإشراف على إجراء الانتخابات؟ أم يؤدّي تفاقم الأزمة السياسية إلى طرح مسألة تأجيل الانتخابات، وبالتالي التمديد لمجلس النواب مجدّداً لمرة ثالثة؟ وإلى متى تستطيب الشبكة الحاكمة مهزلة الإدمان على التمديد لمجلس النواب؟ ألا يقتضي أن يستجيب الرئيس عون لمطلب القوى الوطنية الحية بالعمل، من خلال انتخابات حرة، على اجتراح ميثاق وطني جديد جوهره تجاوز جمهورية «الطائف» الطوائفية المتهالكة بغية إقامة الدولة المدنية الديمقراطية على أسس الحرية والمواطنة وحكم القانون والعدالة والتنمية؟
هذه الأسئلة جدّية، ولا تعكس تعقيدات الأزمة داخل لبنان فحسب، بل تتصل أيضاً بانعكاساتها في دول الإقليم وحتى في كبريات دول أوروبا وأميركا. ولعلها تشير أيضاً إلى أنّ الصراع بين مختلف اللاعبين في الساحات الإقليمية المتعددة محتدم وطويل، وأنّ جميعهم يعيشون مآزق مربكة في أوضاعهم الداخلية كما في علاقاتهم الخارجية.
هكذا تتجدّد أزمة لبنان المزمنة وتتعقد…
وزير سابق