الرجعية العربية والأمن القومي المفقود!
د. محمد سيد أحمد
لم يكن بمقدور المشروع الاستعماري الغربي الهادف لتقسيم وتفتيت المنطقة قديماً وحديثاً أن ينجح بعيداً عن المساعدة بواسطة الرجعية العربية فعملية التقسيم والتفتيت الأولى في مطلع القرن العشرين وعبر اتفاقية سايكس ـ بيكو كانت الأيدي العربية الغادرة المتآمرة حاضرة بقوة في مشهد التقسيم والتفتيت. وعندما أرادت بريطانيا القوة الاستعمارية الأكبر في العالم في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أن تمنح اليهود قطعة من الأرض لإقامة وطن بدلاً من تفرّقهم في أقطار العالم المختلفة في ما عُرف بمرحلة الشتات، عبر ما عُرف بوعد بلفور كانت الأيدي العربية الخائنة والعميلة موجودة دائماً، وجاهزة لطعنة جديدة في قلب الأمة.
وعندما أعلن اليهود الصهاينة عن دولتهم المزعومة قرب منتصف القرن العشرين وكانت شمس الإمبراطورية البريطانية قد أوشكت على الغروب، وبدأت شمس الولايات المتحدة الأميركية في الشروق كقوة استعمارية جديدة في العالم، خرجت الجيوش العربيّة للتصدّي للعصابات الصهيونية المعتدية على الأرض العربية في فلسطين، وهُزمت الجيوش العربية بفعل الأيدي العربية الخائنة والغادرة.
وحين بزغ نجم زعيم عربي كبير قاد حركات التحرّر الوطني حول العالم ودعا الى مشروع بديل للمشروع الاستعماري القائم على فكرة التقسيم والتفتيت، وهو المشروع القومي العربي الذي يعتمد على فكرة الوحدة، تمّ التآمر عليه بالأيدي العربية الرجعية نفسها فقاموا بإفشال الوحدة المصرية السورية أولاً ثم ساهموا في حدوث النكسة ثانياً، ولم يهدأ لهم بال حتى رحل جمال عبد الناصر وفي قلبه مئات الطعنات الغادرة بفعل هذه الأيدي العربية المتعاونة مع القوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
ولا بدّ من الاعتراف بأنّ العدو الأميركي الصهيوني قد استطاع وبمهارة كبيرة استخدام الرجعية العربية لضرب الأمن القومي المصري، سواء بمعناه الواسع الذي أدركه الزعيم جمال عبد الناصر من خلال قراءة واعية للتاريخ المصري القديم والحديث، وهو ما جعله ينظر للأمن القومي المصري وفق ثلاث دوائر رئيسية الأولى هي الدائرة العربية، والثانية هي الدائرة الأفريقية، والثالثة هي الدائرة الإسلامية. وكانت بداية ضرب هذا الأمن القومي بمعناه الواسع على أيدي الرئيس أنور السادات ومن بعده الرئيس حسني مبارك عبر إدراكهما الضيّق للأمن القومي المصري والذي يتخندق حول الحدود الجغرافية القطرية، وكانت هذه هي الخطوة الأولى لضرب الأمن القومي بمعناه الواسع الذي استخدمه بمهارة ووعي جمال عبد الناصر، حيث انتهت نظرية الدوائر الثلاث للأمن القومي بقطع العلاقات مع الدائرة العربية عقب كامب ديفيد ، ثم إهمال الدائرتين الأفريقية والإسلامية في الوقت الذي دخل العدو الأميركي الصهيوني ليملأ هذا الفراغ ويشكل هذا الفضاء وفقاً لمصالحه.
وبعد نجاح الأميركان والصهاينة بمساعدة الرجعية العربية في ضرب الأمن القومي المصري بمعناه الواسع، بدأت مرحلة جديدة لتضييق الخناق علينا لضرب أمننا القومي بمعناه الضيّق عن طريق إشعال النيران في محيطنا الجغرافي، فالحدود الشرقية المصرية مشتعلة دائماً بفعل وجود العدو الصهيوني على أرض فلسطين المحتلة، ومع انطلاق شرارة ما سمّي الربيع العبري اشتعلت النيران على حدودنا الغربية بعد التخلّص من القائد الليبي معمر القذافي الذي وقف حجر عثرة لما يزيد عن أربعة عقود حمى فيها البوابة الغربية للأمن القومي المصري، وبالطبع لا بدّ أن تكون الحدود الجنوبية مشتعلة بعد النجاح في تقسيم السودان بوابتنا الرئيسية للقارة الأفريقية الى دولتين في ظلّ رعونة وتهاون من عمر البشير.
وبعد مرور ما يقرب من سبع سنوات على هذا الربيع المزعوم أصبح الأمن القومي المصري مفقوداً سواء بمعناه الواسع أو الضيّق، وانكشفت كلّ خيوط المؤامرة الأميركية الصهيونية، والمؤلم حقاً أن تنكشف معها الأدوار الوظيفية للرجعية العربية، فالدائرة العربية كلها أصبحت مشتعلة بالنيران العراق وليبيا وسورية ولبنان واليمن والسودان وشبح التقسيم والتفتيت ينتقل كالوباء من قطر عربي الى آخر. وإذا كانت الرجعية العربية تاريخياً تقوم بأدوارها في الخفاء، فقد انتقلت في هذه المرحلة للعمل في خدمة المشروع الأميركي الصهيوني في العلن، فلا عجب أن يخرج رموز هذه الرجعية ليعلنوا أمام العالم أجمع أنهم يموّلون الإرهاب في الدول العربية التي أشعلت فيها النيران، أو أن يعلنوا الحرب عليها ويقومون بضربها ويهدّدون غيرها بالضرب.
هذا إلى جانب دورهم المخزي في ضرب الدائرة الأفريقية ومساهماتهم في بناء سدّ النهضة المخطط له أميركياً وصهيونياً لضرب أمننا القومي في مقتل عبر شريان حياة المصريين وهو نهر النيل. وبالطبع لم تنجوا الدائرة الإسلامية من تآمرهم عبر إشعال الفتن ومساعدة تركيا على إحياء حلم دولة الخلافة، في الوقت ذاته الذي تروّج فيه لما يسمّى أطماع إيران في إقامة دولة شيعية في المنطقة، في مواجهة الدولة السنية، في حين أنّ إيران انكفأت لبناء مجتمعها لتصبح قوى ذات وزن يهدّد المشروع الأميركي الصهيوني، وبالطبع العلاقات المصرية مع تركيا وإيران في أسوأ مراحلها.
وفي ظلّ هذه الأجواء المهدّدة للأمن القومي المصري بواسطة المشروع الأميركي الصهيوني أصبحت مهمة مصر صعبة للغاية من أجل استعادة أمنها القومي المفقود، فعليها أن تتحرك بحذر شديد وسط النيران المشتعلة بأيدي الرجعية العربية، وعليها أن تعيد ترميم علاقاتها على مستوى الدوائر الثلاث العربية والأفريقية والإسلامية، فتتدخّل بقوة لإنهاء الحرب في العراق وسورية واليمن وليبيا، وفي لبنان قبل اشتعالها، وتعيد التحامها مع دول حوض النيل، وتعيد علاقاتها المقطوعة تعسّفياً مع تركيا وإيران.
اللهم بلّغت، اللهم فاشهد.