نهايّة عصر الردَّة: درهم وعْيٍ خيرٌ من قنطار تآمر
د.رائد المصري
التحوّلات المهمَّة التي تعيشها المنطقة مع بدايّة انتهاء الحرب السوريّة والعراقيّة وامتدادها إلى لبنان لاستنزاف المقاومة فيه، تبشِّرنا بأنَّ حركة الوعْي التاريخيّة للأمَّة قد بدأ مزاجها بالتبدُّل والتحوُّل في أولى تباشيره بانتهاء عصر الردَّة العربيّة الذي طال انتظاره، ودفعت شعوب الأمَّة العربيّة والإسلاميّة الكثير من التضحيات في سبيل هذا التحوُّل في رفع أعمدة سقف المشروع التحرُّري بوجه «إسرائيل» وتداعيات استخدام أدوات التكفير والقتل الإجراميّة، عبر تثبيت وَحْدة الدول واحتضان مناعة جيوشها وإذكاء حالة الوعي منعاً للعَبَث والخيانة والتآمر ونبدأها من لبنان.
فالفريق اللبناني الذي يُجاهر ويصيح ويعلو صوته أكثر من غيره، غيرةً على سيادة لبنان واستقلاله هو الفريق الأكثر ارتهاناً للخارج وتسويقاً للمشروع الاستعماري الصهيوني، وما كشفته الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة، والمشكورة طبعاً على جهودها الدؤوبة في السَّهر على حمايّة لبنان وأمْنه واستقراره، من عمليات أمنيّة استباقيّة بالدخول «الإسرائيلي» الجديد القديم على خط اغتيالات شخصيات سياسيّة لبنانيّة وازنة في الحياة السياسية، ولاعبة أدواراً مستقيمة ثابتة في مقارباتها خطوط التواصل العربيّة بين بعض الدول وبينها وبين لبنان. كما كشفت التقارير والتحقيقات التي أُجْرِيت مع العميل الجديد والمخرج المسرحي زياد عيتاني من التخطيط والعمل مع أجهزة الاستخبارات «الإسرائيليّة» التي شغّلته وورَّطته لمعرفة تحرُّكات ومواقع وزير الداخليّة نهاد المشنوق والوزير السابق عبد الرحيم مراد، وهو ما ورَدَ أصلاً من خلال اعتراف العميل عيتاني نفسه في التحقيقات. كلُّ ذلك يؤشِّر إلى المنْحى الذي بدأت تسلُكه القوى السياسيّة في لبنان، وما باتت تشكِّله هاتان الشخصيتان البارزتان المُراد استهدافهما في الوسط السياسي، من رافعة للعمل العربي المشترك والتقريب في وُجهات النَّظر بين الأشقاء اللبنانيين وعلى مستوى العمل العربي، وتصحيح مسيرة سلوكه الذي تشوَّه وشوَّهته حروب التكفير. وكان من نتائج إفرازاته اجتماع وزراء الخارجيّة العرب الأخير في الجامعة العربيّة والقرارات المُشينة التي صدرت عنها، وحروب الردَّة الأخيرة التي كانت قبلتها فلسطين القضيّة المركزيّة وأساس وحدة العرب.
لم يصل اليأس إلى الصهاينة بعد، رغم كلِّ ما تحقَّق وما تحصَّل من إنجازات وضربٍ لمشروع التقسيم والتفتيت لبلدان المشرق، فها هي مسودَّات المشاريع «الإسرائيليّة» القاتلة تعود من جديد بانطلاقتها عبر بوابة الاغتيالات السياسية، في محاولات لقلْب التفاهمات والتوازنات السياسيّة وخرْبَطَة الوقائع التي عَجِزَ المشروع السعودي الأخير عن إنجازها، من خلال حجز رئيس حكومة لبنان واستقالته وتريثه عنها في عيد الاستقلال، فأرادوا الضَّرب من تحت الحزام المذهبي والتخطيط للاغتيالات لإضعاف الصفِّ الوطني العروبي ذي البُعد القومي، والذي فعل فعله في الحراك الأخير بين مصر واليمن وسورية والعراق.
إنها فعلاً نهايّة عصرِ الرَّدة العربيّة الذي بدأ يؤسِّس للفعل التاريخي، ولبدايّة تصحيح حركة التاريخ التي تشوَّهَت فكراً وممارسة وإيديولوجيا وأسلوباً للحوار، ولتصحيحها يجب إسكات كل المتآمرين والعملاء الخونة وتطويقهم ومحاكمتهم المرتبطين مع المشروع الاستعماري «الإسرائيلي» وكلاب حراسته في لبنان، وإعادة الاعتبار لدور القضاء العسكري، وعدم التساهل مع هذه الحالات الإجراميّة التي باتت تُشكِّل مجرَّد وُجهة نظر تجدُ مَنْ يدافع عنها ويَستحسن ويَستسيغ الوقوف إلى جانبها تحت شعارات الحريات العامة وممارسة الحقوق الفرديّة والمساهمات الفكريّة وعرض الأفلام والمسرحيات التطبيعية، وكان لنا منها نصيب أكبر في الآونة الأخيرة من بعض المخرجين اللبنانيين المستغربين والمتصهينين، آخرهم زياد عيتاني وقبله الحكم الجائر على منفذ حكم الشعب حبيب الشرتوني.
كلمةٌ في الوجدان لا بدَّ منها بعيداً عن التحليلات السياسيّة وما يُحاك على أوطاننا من دسائس ومؤامرات دنيئة، لنسأل العميل أو المشتبهَ به في العمالة زياد عيتاني: هل سأَلتْكَ واستفسَرتْ منكَ مشغِّلتك الضابطة الصهيونيّة عن كيفيّة حسن الضيافة وكرَمِ تقديم الطعام لك في منزل الوزير مراد تعبيراً واحتراماً وتعزيزاً لقيمتك الفنيّة والإخراجيّة والمسرحية…؟؟ وهل سَأَلَتك مشغِّلتك الضابطة الصهيونيّة عن سبب حسن الضيافة والكرم الذي نعِمْتَ به في منزل الوزير المذكور..؟؟؟ أمْ أنَّها عادات اعتبرْتَها غابَتْ عنِ الأدبيات العربيّة كعادات الكرم والمروءة والنَّبالة..؟؟؟
نعم إنَّه حقاً زمنُ أفول عصر الرَّدة العربيّة وإعادة تصحيح مسار حركة التاريخ.
أستاذ في العلوم السياسيّة والعلاقات الدولية