دمشق تستحقّ… مِنصّة!
د. وفيق إبراهيم
المطالبة بمنصّة سياسية خاصة بدمشق العاصمة السوريّة قد تبدو دعوة إلى التشرذم أو تجاوزاً لإمكانات الدولة التي لم تقصّر في الدفاع عنها وتوفير احتياجاتها بالحدّ الأقصى طيلة سنوات الأزمة السبع العجاف.
المسألة ليست هنا أبداً، فعدا عن أنّ «الشام» كما نسمّيها نحن في بلاد الشام هي العاصمة الإدارية الرسمية، فلا يجب تجاهل أدوارها المرتبطة بسورية كدولة من جهة، وأزمتها المتعلّقة بالأدوار العربية والإقليمية والدولية من جهة ثانية. لذلك، فمن الطبيعي أن يكون دورها سجّل «توسّعاً» ضخماً في عديد السكان المتنوّعي الانتماءات الريفية، وتعمّقاً في استشراف الأزمة السورية ومدى إدارتها من قِبل الخارج.
ألا تستحقّ هذه المدينة التي تمثّل كلّ سورية، وربما الجوار أيضاً، أن تتقلّد بمنصّة خاصة بها وهي العاصمة «الكوزموبوليتية التي لم تشهد حدثاً طائفياً أو قبلياً أو عرقياً منذ نصف قرن على الأقلّ؟! على الرّغم من تقاطعها مع محيط سوري اخترقته الدول المجاورة والخليجية بعناوينها المذهبية والطائفية وبدعم غربي غير مسبوق بأحجام التسليح والتدريب والرعاية والحماية والإعلام… ما يجعل من هذا الغرب ديمقراطياً في بلدانه، وعنصرياً وطائفياً وقبلياً في البلاد العربية والإسلامية.
دمشق إذاً، توسّع عديدها وتعمّقت تجربتها في القراءة الوطنية للتعدّد السوري، ولديها الآن نحو تسعة ملايين نسمة، وربما أكثر يسجّل النازحون بسبب الأزمة ثلثهم على الأقلّ، مقابل ربع آخر من سكّانها نزحوا من الأرياف التي أُصيبت منذ عقد بجفاف أيبس الموارد وأقحل الأرض في مراحل سبقت هذه الأزمة، فاستوطنوا أرياف دمشق وسوارها الفقير.
هذا ما يجعل «الشام» مختبراً «للدراسة العميقة» للأزمة السورية بأبعادها الداخلية والخارجية، لأنّ كلّ التيارات موجودة فيها، وأصبحت ملمّة بالحاجات الوطنية والسياسية والاقتصادية التي تحتاجها سورية وسوريّوها الفعليّون.
إنّ هذا التفاعل السوري في المدى الدمشقي المحدود أنتج تجارب رائعة في فهم الجانب الوطني من الأزمة السوريّة، حتى أنّ لغة واحدة يردّدها أنصار الاتجاهات القومية والسوريّة والداخلية والطبقية، وتلك المسحورة بتجارب الغرب، تؤكّد أنّ هناك هجوماً خارجياً على الوطن السوري، ما يجعلنا نرجئ أيّ مطالبة بالتطوير الداخلي إلى ما بعد مرحلة الانتصار، فنهزم الغزاة المتغطّين بلبوس سوري رديء لا صدى له في الداخل. هذا حال معارضات أنقرة والرياض التي نبحث عن صداها في سورية، فلا نجد إلا أشباح ما يسمّى الجيش الحر أو فيالق الإخوان المهزومين، أو جيش الإسلام السعودي ومجموعة من التركمان يتحرّكون تحت العلم التركي. أمّا «داعش» و«النصرة» المدعومان من الغرب والخليج وبعض المعارضات السورية في الخارج، فقد تملّص الجميع من تأييدهما بعد هزيمتهما المدوّية من قِبل حلف سورية مع روسيا وإيران وحزب الله.
يتبيّن بالاستنتاج أنّ التفاعلات الدمشقية تعكس كامل التفاعل السوري المتعدّد، وميزته أنّه رفض الإرهاب وأنواعه المتخفية خلف أزياء طائفية وأممية، مفسحاً المجال للجيش العربي السوري بظهير جماهيري مؤيد، وموفّراً مساحات اجتماعية هادئة كانت من الوسائل الوطنية لمجابهة الحلف الغربي الخليجي التركي ـ الأردني «الإسرائيلي».
لذلك، فإنّ دمشق المتنوّعة هي جزء من هذا الانتصار الكبير، وتنوّعها متجسّد في أحزاب مرخّص لها بالعمل وأخرى تعمل عليه، وهي من اتجاهات شتّى لكنها تجمع على أنّها شريكة في الانتصار.
وميزة هذه القوى أنّ لديها مشارب إيديولوجية متنوّعة، لكنّها تتفق على الولاء لسورية ودور الدولة في رعاية التفاعلات، ولأنّها صمدت في الشام وسط تفاعلات أهل المدينة والنازحين إليها بسبب الأزمة واللائذين في حماها من وطأة الجفاف، فقد تمكّنت من تحقيق دراسات وافية في حاجات السوريين على المستويات الوطنية والسياسية والاقتصادية.
وطنياً، تُصرّ هذه القوى على استكمال تحرير وطنها من الحدود العراقية حتى الحدود التركية بما فيها شرق الفرات، من خلال تلبية الخصوصية الثقافية للكرد، ومع رفض كامل لأيّ دور للتنظيمات الإرهابية أو المرتبطة بدول خارجية. لذلك فهي تقدّم مساندتها الكاملة للدولة في عمليات التحرير.
لجهة الوضع السياسي، فترى هذه القوى السوريّة أنّ الدولة لم تتمكّن من تطوير بناها بالتزامن مع تطوّر المجتمع السوري. وهذا ليس سببه عجز الدولة، بل الحرب الكونية على سورية التي لم تسمح لدولة الرئيس بشار الأسد إلا الاهتمام بالدور العسكري البطولي في الذود عن حياض الوطن، وتوفير جهود جبارة لتأمين مستلزمات الحياة للناس من ماء وكهرباء وأمن وسلع وقمح ومختلف أنواع السلع التي لولا تأمينها الشجاع لانهارت سورية. وهي عملية لا تقلّ أهمية عن الدور العسكري. لذلك تعتقد هذه القوى أنّ المزيد من الطابع الديمقراطي للمؤسسات، وحق الشعب في المشاركة عبر الانتخابات هي من الأساسيات التي تميّز سورية عن ملكيات دكتاتورية مستبدة لا وجود فيها إلا لحاكم يستولي على كلّ شيء، ويعتبر الناس والبترول والأرض والسماء ملكاً له ولعائلته، مقابل دولة سورية يحكمها دستور يحتاج إلى تعديل أو تغيير حسب الحاجات، لكن المطلوب شعبياً مشاركة أكبر للسوريين في اختيار مَن ينوب عنهم في المؤسسات. وهذا يحتاج إلى حوار عميق بين الدولة والقوى السياسية.
لذلك، يبدو نافراً ومستهجناً إصرار القوى الأميركية والسعودية والتركية على تشكيل «وفود سورية» للمفاوضات في جنيف لا تحمل هموم الناس، ولا تعبّر عن حاجاتهم. أيعقل أنّ نصر الحريري ومجموعته الذين يقيمون بين تركيا والسعودية وقطر أكثر دراية بحاجات السوريين من أحزاب سورية المرخّصة وغير المرخّصة والمقيمة في الداخل؟!
الفئة الأولى من المفاوضين تمثّل مصالح الرياض وأنقرة وقطر وواشنطن أكثر من تعبيرها عن مصالح السوريين، فمن يصدّق أنّ شخصيات تنتحل الصفة السوريّة يتكلّم باسمها أردوغان والجبير وتيلرسون ونتنياهو في بعض الأحيان، وبوسعها حماية سورية ومصالح أهلها؟!
حماة سورية هم جيشها وأحزابها من البعث إلى كلّ الأحزاب المرخّصة العاملة في الداخل، والتي تعتبر أنّ الدولة هي سقفها.
لذلك، ليس عجيباً أن تطالب أحزاب صمدت في الداخل بحقّها في منصّة أطلقت عليها «منصّة دمشق»، تطلق من خلالها إيماناً عميقاً بسورية مع ضرورة إجراء تغييرات سياسية، وأخرى اقتصادية توقف الهدر والفساد، وتضع المال العام في إطار خدمة الوحدة الاجتماعية وإنماء المجتمع.
وهذا يؤكّد ضرورة وجود «منصّة دمشق» موازية للهيئة العليا للمفاوضات وضابط لاتجاهاتها الداعمة للإرهاب على قاعدة الإيمان باستمرارية الدولة السوريّة صاحبة الحق بإدارة التغيير إلى جانب أحزاب الداخل… وتمثيل المصالح الحقيقية للشعب السوري، البطل الفعلي الذي ساند الجيش في تحرير قلب المشرق العربي.