«كأنّني أسابق صخرة» لملاك مكّي.. مجازات قابلة للتحوير!

طلال مرتضى

في منجزها الأول، والذي استظلّ تحت عتبة فيزيائية المعطى «كأنّني أسابق صخرة»، والصادر عن «دار النهضة العربية ـ بيروت»، تذهب الشاعرة الإعلامية ملاك مكّي من دون ارتباك، مثقلة بـ«ك» الافتراض التي تحثّ قارئ المعطى على أن يتوقّف على طرفَي نقضين، في معادلة كما أسلفت فيزيائية لتبقى هي ـ أي الشاعرة ـ ممسكة بقسطاس الحكاية وحدها، بعدما وازنت بالإيهام ما بين الدهشة والحركة، لتعبر، لتعرج بأناها نحو بروج المقولة:

«كأنني أسابق صخرة

لا أعرف معنى الدهشة

لا الثبات يدهشني ولا الحركة».

منذ المطالع، يخال قارؤها أن ثمة حبكة مجهدة أرادت النحو صوب جهة الهايكو بتخفّف. ولعلّ القارئ أيضاً لا ينفي عنها استحقاقات الهايكو من حيث بعض المقوّمات الأساسية التي يتوكّأ عليها كمعمار فنّي أو بنيان تشكيليّ مجازيّ، كالواقعة، أي مكان دوران الحدث الذي يستجدي حضوره الشفيف من محيطه المجاور، والذي يتّخذ من الهواء والشمس والماء والشجر والحواس مفاتيح. وفي حين آخر يبني توقيتاته على تنويعات، أيضاً أشي بأنها مجاز مثل غياب الشمس وشروقها والأصوات.

وهنا لا بدّ من القول، وفي هذه الحالة، بقي تشكيله كهايكو مترنح أمام عصف الفنون الكتابية الأخرى، وبدا أمامها كمن يستند إلى عكّازين أو داعمتين، وهذا ما يجعله عرضة للسقوط الحتميّ بعد غياب القائم الثالث، والذي يرفع عن كاهل الحكاية إثم ارتكابها. وأقصد هنا القائم الثالث، بما يسمّى القفلة الصاعقة والمفارقة لما داخل المتن، وهي التي تقدّم النصّ على أنه جنس إبداعيّ حرّ ولد من لدن عباءة هايكو بعد أن حقّق شروطه كافة:

«يتسلّق الضوءُ الدرجَ ببطءٍ، بهدوءٍ

أشاركُه التسلّق

أتسلّقُ والضوء الدرج ببطءٍ وهدوءٍ

نصلُ إلى حافّة الدرج

يتركني الضوءُ وحيدة».

وغير ذلك سيبقى ومن دون مواربة نصّاً نثيرياً يفتتن بما يطلق عليه بالخاطرة، وبالتأكيد قد يتبادر إلى ذهن أحدهم أنّ هذا خلل أو تقليل من قيمة المادة المعطاة على مسطح الورق، وهذا اعتقاد خاطئ، من باب أنّ كتابة الخاطرة أو ما يسمّى حديثاً بالاختصار «ق ق ج» أي قصة قصيرة جداً، في الوقت ذاته لا تقلّ شأناً عن أيّ افتعال أدبي وهي من الفنون الكتابية الصعبة وقد أطلق على بعضها من نحاة النقد بالومضة، والتي يختلف تشكيلها البنائي بين نصّ وآخر بينما يتمسّكان بكل ممكنات الكتابة كي يتسامقا معاً بلبوس شعري، يعطي النصّ زخماً حسّياً ووجدانياً أعمق. هذا قبل الولوج إلى الترميزات والإسقاطات التي تعبر كناياتها عبر مراحله، كما نتلمس في النصّين التاليين للمفارقة:

«لا أعرف من هو الذي جاءَ ذات صباحٍ

يحدّثني عن ورود غريبة

زرعتها أيادٍ هوجاء في حقولٍ فوضويّة

حتّى الأيادي حدّثني عنها

هو الذي جاء من أمكنةٍ بعيدةٍ

يحدّثني أنا السمراءَ ذات الأصابع الجليديّة».

وكذلك لا بدّ من الوقوف على نواصي دلالات النصّ الآخر لتكتمل دائرة المفارقة البنائية أو التشكيلية بين النصين كما جاء في قول الكاتبة:

«أحبُّ فيكَ القصب

وأحبُّ في نفسي السُّكّر».

وتعود بي الحكاية نحو مطالع المقال بالسؤال عن سرّ ارتباط الشاعرة بالعوالم الفيزيائية، إذ إنّ التجربة الكتابية وعلى مرّ العصور أثبتت أنّ الكاتب لا بدّ أن يترك شيئاً منه بعيداً عن حالته الحسّية. بل أعني أدوات اشتغاله في الحياة. فكثيراً ما نطالع مثلاً في منجز شاعر طبيب، فإن كلمات «مبضع»، و«جرح» و«وجع» تتكرّر كثيراً.

وهنا ألتقط الكثير من مفرادات وجمل الفيزياء في ما تركته لنا الشاعرة مكّي: «الثبات والحركة، يتصاعد البخار الساخن، يتمدّد، يتبعثر، يختفي، الذوبان، الترسّب في الأعماق، و يخلق الضوء لنفسه ظلّاً».

وكي لا أسهب أكثر، وقبل التوقّف عند الخواتيم، أقول: ثمة مقولات هامّة تُركت هنا، قد نعبرها على حين فجأة من دون اكتراث، ولكنّني وبعد القراءة الثانية للمنجز وجدت أشياء لم أعبرها خلال القراءة الأولى. عبثاً لا أدري كيف لم أضع لها إشارة تعجّب!

«حزينة كفراشة أضاعت زهرتَها

فالتصقت بالضوء».

كاتب سوريّ ـ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى