القدس: صحّ النوم… هل استيقظتم الآن لماذا «الربيع العربي»!؟
نصار إبراهيم
«القدس عروس عروبتكم؟!
أهلاً.. أهلاً
فلماذا أدخلتم كلّ زناة الليل إلى حجرتها؟
وسحبتم كلّ خناجركم
وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة!؟»
هناك من يقارب السياسة ويمارسها كالقحبة أو كمجاهد النكاح، فيما الخصم يدير المواجهة وفق منطق اللوغارتمات أو المتواليات الهندسية، فهو لا يمزح في القضايا الكبرى، فيدير المعادلات وفق استراتيجيات وحسابات بعيدة، تقوم على تعظيم وتركيم عوامل ومفاعيل القوة من جانب، واستنزاف الخصوم وتدمير مقدّراتهم وتمزيقهم من جانب آخر.
لهذا فإنّ قرار دونالد ترامب وإدارته الاعتراف بالقدس عاصمة لـ»إسرائيل»، ليس صدفة وليس مفاجئاً، إنه نقلة استراتيجية مدروسة على رقعة شطرنج الصراع.
أنا لست هنا في معرض نقاش الأبعاد والجوانب القانونية بخصوص قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ»إسرائيل»، كما لست معنياً بالثرثرة الساذجة بأنّ القرار سيؤدّي لموت عملية السلام وحلّ الدولتين، أو أنه سيؤدّي لوضع «المعتدلين العرب» في موقف محرج… فمع هذا القرار يسقط خيار كامل اسمه «أكذوبة أو وهم عملية السلام» في ظلّ الرعاية الأميركية الغربية.
أقول ذلك لأنّ الاستمرار في لوك مثل هذا الخطاب وهذه المقاربات المائعة لن تكون وظيفته سوى ترسيخ التشوّه وحرف النقاش عن جوهره وأصوله والركض الأحمق وراء أوهام تثير سخرية التاريخ والواقع معا.
ما أريد نقاشه وتأكيده هو أنّ ترامب ليس أهوج أو أحمق كما يصفه الكثيرون، وحتى لو كان كذلك فهو في الواقع أحمق يفرض خياراته على كلّ «العقلاء»… في الحقيقة أنّ الأحمق والأهوج هو من لا يقرأ سياسات وخيارات ترامب في سياقاتها، الأحمق من لا يملك خطة أو رؤية استراتيجية بمقدورها مواجهة ما أقدم عليه «الأحمق» ترامب.
والآن هل تدرك القوى السياسية والنخب العربية التي التبس عليها الأمر سواء بوعي أو بدونه، أنّ أميركا لا تهمّها أديانهم أو طوائفهم أو مصالحهم أو حقوقهم، ذلك لأنّ ما يهمّها أولاً وعاشراً فقط مصالحها وأمن «إسرائيل» وأموال العرب!؟
أميركا لا يهمّها لا المسلمين ولا المسيحيين ولا السنة ولا الشيعة ولا الأشوريين ولا الأزيديين ولا الحوثيين ولا الدروز ولا العرب ولا الأكراد ولا الفرس ولا حتى من تسمّيهم أصدقاءها بما في ذلك «مثقفي الهمبرغر» و «بوس الواوا»… ما يهمّها هو مصالحها التي تتربّع «إسرائيل» في مركزها.
لهذا فإنّ قضية فلسطين – التي اعتقد الكثيرون أنها تراجعت وتهمّشت – إنما هي دائماً في مركز الاستراتيجيا الأميركية الأمنية والسياسية والاقتصادية، وفي مركز المركز تقف «إسرائيل». ذلك لأنّ أميركا تدرك بعقلها العميق أنّ قضية فلسطين هي قضية الشرق الأوسط بكامله، وبدون تصفيتها وتحطيمها سيبقى بمقدورها إطلاق شياطين العناد والمقاومة بما يهدّد على المدى الاستراتيجي المصالح الأميركية في المنطقة كلها.
وحتى لا يبدو الكلام مجرد ثرثرة، لنعيد قراءة السياقات…
في عام 1979 جرى توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر فخرجت مصر من معادلة الصراع، حينها تقدّمت أميركا خطوة لتصفية القضية الفلسطينية فاقترحت تطبيق حكم ذاتي إداريّ للفلسطينيين وتحسين ظروف حياتهم الاقتصادية.
في تشرين الأول عام 1991 وبعد تلاشي الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي انطلقت في عام 1987، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي تمّت الدعوة لعقد مؤتمر مدريد للسلام، فكان الاعتراف بـ»إسرائيل» ورسائل الضمانات الأميركية للفلسطينيين والعرب، فطارت رسائل الضمانات وبقي الاعتراف.
في 13 أيلول عام 1993، وبعد أن تمّ تدمير وحصار العراق وفيما الوضع العربي في حالة يُرثى لها، تقدّم الأميركان و»إسرائيل» خطوة أخرى وتمّ فرض اتفاقيات أوسلو لتتلوها اتفاقية وادي عربة.
اليوم يمرّ ربع قرن تقريباً على توقيع اتفاقيات أوسلو، والنتيجة صفر صاف للعرب والفلسطينيين وربح صاف لـ»إسرائيل»، هذا يذكرنا بما قاله إسحق شامير رئيس وزراء «إسرائيل» أيام مؤتمر مدريد: أنا مستعدّ لأن أفاوض العرب والفلسطينيين عشرات السنين…
في عام 2011 بدأ ما يسمّى «الربيع العربي»، ومنذ ذلك الحين راحت «إسرائيل» تتابع ما يجري وهي تقهقه، فليس هناك ما هو أفضل من أن يغيب العرب في طقوس عملية انتحار جماعي، ليتضح في ما بعد أنها عملية انتحار مخططة جيداً، فالقوى الاستعمارية وعلى رأسها أميركا كانت تدرك جيداً حالة الاحباط واليأس التي وصل إليها المواطن العربي جراء منظومة الخضوع والفساد والإفساد والفقر والبطالة والديون التي غاصت فيها الدول العربية، لهذا كانت اللحظة مناسبة لإطلاق عجل الفوضى من عقاله وفق مقاربة بريجينسكي، فشرارة واحدة كانت كافية لإشعال السهل العربي ودفعه نحو حالة من الجنون الشامل.
الأهداف العميقة من وراء فوضى أميركا «الخلاقة» كانت: تدمير جيوش ومقدّرات الدول العربية وتمزيق وحدتها ونسيجها الإجتماعي، واستنزاف طاقاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وثرواتها البشرية والطبيعية في صراع داخلي مرير دامٍ وطويل المدى، ولكي يتحقق ذلك فقد تمّ تفعيل مجموعة من الديناميات:
إطلاق شياطين الاحتراب الطائفي، فكانت معادلة الصراع السني – الشيعي، وعلى هوامشه بث الذعر في أعماق المسيحيين العرب.
تدمير وتحطيم الوعي العربي بتدمير أديانه الأساسية وتشويهها وتحويل الإسلام كدين للأغلبية العربية إلى دين ذبح وقتل ونكاح، وتحويل الدين المسيحي العربي الأصل إلى دين مهاجر. وفي السياق تحطيم الحضارة والإرث التاريخي والثقافي للأمة العربية بكافة مكوّناتها الاجتماعية، وبموازاة ذلك تظهير «إسرائيل» باعتبارها ربة الديمقراطية والإنسانية في قلب الشرق الأوسط المتوحش.
تدمير الجيوش الوطنية في سورية والعراق واليمن ومصر واستنزافها، وفي السياق تصفية العقول والكفاءات العربية.
إطلاق دينامية التقسيم والتمزيق الطائفي والقومي في العراق وسورية ولاحقاً في مصر وغيرها.
الترويج لصراع إيراني – عربي وبأنّ إيران هي العدو والخطر الداهم، وبهذا تتمّ إزاحة «إسرائيل ومشروعها الاستعماري واحتلالها لفلسطين من المشهد.
تقديم «إسرائيل باعتبارها حليفاً استراتيجياً في مواجهة خطر مفتعل ومصطنع.
شيطنة المقاومة وحصارها واعتبارها إرهاباً…
لقد كان من الصعب أن يخطو ترامب خطوة بحجم إعلان القدس عاصمة لـ إسرائيل ، بدون إشغال العرب واستنزافهم في صراعات طاحنة تأخذ في طريقها الجيوش الوطنية والتاريخ والإرث الحضاري والاقتصاد والتماسك الاجتماعي، لهذا كان الهدف العميق من «الربيع العربي هو إسقاط دمشق وبغداد وصنعاء وبيروت، فيما منظومات التخلف والجهل المهيمنة في ممالك وإمارات النفط والكاز بقيت خارج المعادلة.
ولكي تتضح الأبعاد المنطقية لهذه القراءة لنطرح إذن بعض الأسئلة المنهجية ولو من باب التدريب الذهني السياسي:
ما الحكمة والمنطق يا ترى من وراء التعامل مع إيران كعدوة للعرب وهي التي ترفع راية فلسطين والقدس، وتقدّم لقوى المقاومة ما تستطيع من دعم وإسناد سياسي وعسكري واقتصادي، أقول هذا بغضّ النظر سواء كانت إيران تقوم بذلك لأسباب دينية أو عقائدية أو مصلحية، فهل هناك دولة في الكون تخطو خطوة دون أن يكون لها هدف ومصلحة!؟ لقد اتخذت إيران هذه المواقف فيما الأنظمة العربية التي تقول إنها غيورة على الأمن القومي والمصالح العربية تعتز بصداقتها مع أميركا التي ردّت لها الشكر على هذه الصداقة غير المشروطة بأن تبرّعت بالقدس عاصمة لـ إسرائيل !؟
هل يفسّر لنا أصدقاء أميركا من العربان، وخاصة ملوك الرمال والنفط، الذين رقصوا مع ترامب عرضة السيف، كيف أنّ ترامب وبعد أسابيع يعلن قدس العرب عاصمة لـ إسرائيل ، فيما هم يواصلون توجيه البنادق وإطلاق النار نحو إيران وحزب الله وكلّ حركة مقاومة تناهض أميركا و إسرائيل في المنطقة… أليسوا بهذا يكونون كما وصفهم بالضبط عاموس يدلين رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي السابق: «العرب يهدّدون بمسدس فارغ، السعودية مشغولة بإيران واليمن وحزب الله القناة السابعة الإسرائيلية، الثلاثاء 6 كانون أول 2017 !؟
هل يفسّر لنا «حكماء العقلانية والاعتدال» كيف يستقيم خطاب ملوك وأمراء النفط عن فلسطين والقدس والعروبة، فيما قواعد أميركا الملاك الحارس لإسرائيل تنتشر في غرف نومهم وفي حدائق بيوتهم!؟.
ثم ليفسّر لنا عباقرة السياسة ما الحكمة والمنطق من وراء اعتبار كل من يقاوم «إسرائيل» إرهابياً!؟
ثم… ألا يثير الريبة والشك، ولو قليلاً، أنّ الدول التي أنفقت المليارات وجنّدت كلّ وسائل الإعلام والاستخبارات لتسليح عصابات القتل من كلّ أنحاء العالم ودفعت بهم لتدمير سورية والعراق واليمن أنها لم تطلق طلقة واحدة على من يحتلّ القدس ويدمّر مقدّساتها وتاريخها…!؟
ألا يثير التساؤل أنّ كلّ شيوخ النكاح وعصابات القتل العابر للحدود التي أودت بحياة مئات آلاف الشباب العرب لتدمير سورية والعراق واليمن ومصر باسم الله وأنبيائه وباسم الدين أنها تتلقى الدعم من «إسرائيل التي تحتفل ابتهاجاً بأنّ القدس قد أصبحت عاصمة لها، وبالمناسبة لقد ضمّت «إسرائيل القدس وأعلنتها منذ زمن بعيد عاصمة لها، ومع ذلك لم نشاهد رقصة الحرب بالسيف في الرياض، مع أنه لم يكن هناك خطر من إيران الشيعية فيما حزب الله لم يولد بعد واليمن كان تحت الهيمنة السعودية!؟
بعد كلّ هذه الأسئلة يبقى سؤال مفصلي: … لا بدّ أن يكون هناك طرف أحمق… فإما أن يكون ترامب وأميركا و إسرائيل ، أو تكون قوى المقاومة، أو يكون أصدقاء أميركا العرب…! يا أخي لازم يكون في طرف أحمق… ولو من باب التسلية يعني… فمن يكون يا ترى ذلك الأحمق!؟
لقد كان من المفروض أن يكون إعلان القدس عاصمة لـ إسرائيل تتويجاً لانتصار ساحق بعد أن تفرض الولايات المتحدة و إسرائيل هيمنتهما الكاملة على عواصم العالم العربي بفعل ديناميات «الربيع العربي كما خطط لها.
غير أنّ صمود سورية ونهوض العراق وصمود شعب اليمن وامتداد قوى المقاومة من بيروت مروراً بدمشق والعراق وصولاً لليمن وفي السياق فلسطين، بالإضافة لنهوض روسيا وتحوّل إيران إلى لاعب دولي وإقليمي أساسي، كلّ هذا أدّى إلى هزيمة الحلف الأميركي الخليجي الرجعي وهزيمة أدواته الأرهابية من داعش والنصرة وغيرهما، وبالتالي سقوط مشاريع التقسيم والهيمنة وتصفية قوى المقاومة…
كلّ هذا دفع ترامب، بالرغم من كلّ التحذيرات، إلى تسريع إعلان القدس عاصمة لـ إسرائيل ، ذلك لأنه يريد أن ينجز هذه النقلة قبل أن تمتدّ مفاعيل انتصار محور المقاومة وما سيترتّب على ذلك من تحوّلات كبرى في الشرق الأوسط، لهذا ما أن بدأت معالم هزيمة داعش وجبهة النصرة وغيرهما من التظيمات الإرهابية، وهزيمة من يرعاها ويموّلها ويسلحها وإخفاقهم الكبير في سورية والعراق واليمن ولبنان، بدأ ترامب يضغط لفرض ما أسماه «صفقة العصر لتصفية القضية الفلسطينية.
أقصد أنّ إعلان ترامب القدس عاصمة لـ إسرائيل هو سباق مع الهزيمة، ذلك لأنّ أميركا تدرك جيداً كما تدرك ذلك «إسرائيل أيضاً بأنّ المرحلة المقبلة هي مرحلة انكفاء وتراجع… وبالتالي يجب فرض ما يستطيعون الآن من حقائق قبل أن تتعافى سورية والعراق واليمن ولبنان ومصر…
ومع ذلك، وسواء أعلن ترامب القدس عاصمة لـ إسرائيل أم لم يعلن، فإنّ ذلك لا يغيّر في حقائق التاريخ شيئاً، وستبقى القدس ليس عاصمة لفلسطين فقط بل وعاصمة للعرب، فبدون عودتها سيبقى أيّ انتصار منقوصاً ومجروحاً في العمق بدون جوهرة تاج العرب القدس.
غير أنّ استعادة جوهرة التاج تلك، مشروط فلسطينياً أولاً وعربياً ثانياً بكنس المقاربات الهابطة والاستراتيجيات المبنية على الوهم والأكاذيب، والذهاب نحو استراتيجية مواجهة شاملة تمسك بعوامل القوة ومعادلاتها في مختلف المجالات بهدف تغيير موازين القوى وفرض استحقاق الحقوق في ميادين المواجهة: السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية… وعدا ذلك هو مجرد لغو فارغ…