فلسطين: بين استراتيجية السيد حسن نصرالله… وأزمة قوى المقاومة الفلسطينية!

نصار إبراهيم

هنالك لحظات وأحداث فاصلة في تاريخ الشعوب لا تعود تجدي أمامها المواقف المائعة والمخادعة، كما لا تجدي معها اللغة الملتبسة والخطابات الفارغة والتذاكي والألاعيب السياسية والإعلامية.

ذلك لأنّ تلك اللحظات والأحداث تفرض ذاتها بالدم والتضحيات فلا تبقي مجالاً للهروب أو الاختباء أو المقامرة، هذا بالضبط ما يحدث الآن في فلسطين.

مرة أخرى ينهض شعب فلسطين ليحرس وعيه وقضيته وقدسة وحقوقه وانتماءه وعروبته… دون أن يسأل أو يتررد أو ينتظر شيئا، كلّ ما يعرفه أنّ عليه أن ينهض ويقاوم، لا تهمّه موازين القوى، كما لا يقيم وزناً للمجاملات الديبلوماسية، ولا لحفنة دولارات من هنا أو هناك.. ذلك لأنه يدرك أنّ وجوده ذاته وقضيته وحقوقه مطروحة في سوق السياسة.

سؤال ابتدائي: إلى متى ستبقى الجماهير الفلسطينية تتقدّم على قياداتها في ميادين المواجهة والسياسة!؟

متى وكيف ستتجاوز القوى السياسية الفلسطينية تكتيكات ردّ الفعل أو استراتيجية ردّ الفعل نحو ردّ الفعل الإستراتيجي!؟

هل بمقدور القوى السياسية الفلسطينية أن تقوم بتجاوز جدلي حاسم لواقع حرب المواقع أو الدفاع التراجعي أو المساومات غير المجدية والمبادرة للهجوم أو حرب الحركة!؟ ما هي شروط هذا الاستحقاق التاريخي!؟

لقد وفرّ قرار الإدراة الأميركية بوعي أو بدونه الفرصة للقيام بهذه النقلة الاستراتيجية.

فقد استنزف الفلسطينيون كلّ فرص التفاوض، حتى لم يبق ما يتنازلون أو يساومون عليه وفق تعبير محمود درويش، هذا يفرض العودة للبديهيات التي تحكم الصراع، فـ»إسرائيل» ومن ورائها أميركا وما يسمّى بالمجتمع الدولي لا يبحثون ولا يسعون للسلام بل استنزاف شعب فلسطين وإجباره على الاستسلام… نقطة.

هذا يعني أنه لم يعد هناك ما يبرّر الاستمرار في تجربة التفاوض المريرة والدامية، أو على الأقلّ لم يعد مقبولاً أو مفهوماً الاستمرار بهذا المنطق والمعادلات الهزيلة، هذا يعني ضرورة القيام بعملية قطع استراتيجية مع الممارسة السياسية الفلسطينية التي حكمت العقل السياسي الفلسطيني على مدار أكثر من ربع قرن.

هذه الفكرة ليست ضرباً في الرمال، كما ليست تعبيراً عن نزق، بل هي الاستنتاج المنطقي الوحيد الذي يمكن أن يشكل رداً على الغطرسة والاستخفاف الأميركي الإسرائيلي، أو لنقل تجاوز الإخفاق وفشل خيارات التفاوض وفق المعادلات والخيارت السياسية الراهنة.

لقد جاءت ردود فعل الشعب الفلسطيني رداً على قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ»إسرائيل» لتعبّر عن روح الشعب الفلسطيني الأصيلة والمقاومة، تلك الروح التي لا تخدعها رهانات هابطة أو سياسات قاصرة، لهذا اندفعت الجماهير الفلسطينية وكعادتها لميادين المواجهة، متجاوزة كلّ المحاذير والتحذيرات والتخويف، ذلك لأنها تدرك بوعيها وحدسها وتجربتها التاريخية المتراكمة أنّ خيار المقاومة التي لا تهادن هو الخيار المنطقي الوحيد لمواجهة عدو من طراز وجوهر وطبيعة العدو الصهيوني.

لقد أيقظت القدس بما تمثله من مكانة ورمزية ووزن الروح القومية، فأسقطت في طريقها ثقافة الهبوط والفكر الطائفي والقطرية، لقد كنست أوهام الواهمين بإمكانية تجاوز فلسطين دون ردّ مقاوم واضح ، وبهذا أجبرت الجميع على الانصياع، فتراجعت أصوات المرجفين والخائفين، وأعادت عناكب الظلام لأعشاشها…

ومع ذلك فإنّ هناك مهامّ وشروطاً يجب بناؤها وتوفيرها لكي يتحوّل العدوان والاستخفاف الأميركي إلى فرصة نهوض جدية.

في العادة، حين يتعرّض الفلسطينيون إلى عدوان أو مواجهة تعلو الأصوات المطالبة بأن يتحرك العرب والعالم لنصرتهم والوقوف معهم، هذا جيد، غير أنّ شرط تحقق ذلك هو أن يقف الفلسطينيون أولا مع أنفسهم.

هذا يعني أنّ القوى الفلسطينية مطالبة اليوم أن تعيد النظر في أدائها وممارستها وخياراتها السياسية الاستراتيجية التي أوصلت القضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه.

وحتى لا يبقى الحديث محكوماً بالعموميات أو اللغة العمياء التي لا تقول شيئاً على حدّ قول غسان كنفاني، فإنّ المطلوب اليوم أن ترتقي القوى السياسية الفلسطينية إلى مستوى الحالة الشعبية والتحديات التي تفرضها القضية الفلسطينية، بما هي قضية شعب وأمة وحقوق تاريخية غير قابلة للتصرف أو المساومة.

مطلوب تجاوز الفكر اليومي الانتهازي والتبريري كما يقول مهدي عامل، هذا يعني بصورة محدّدة:

أنّ على حركة فتح أن تتجاوز مصيدة التفاوض القاتلة إلى ما لا نهاية، وأن تعيد الاعتبار لخيار المقاومة الشاملة كاستراتيجية مواجهة، مطلوب منها أن تتجاوز سقف القرار الرسمي العربي الهابط الذي يتناقض مع إرادة وحقوق الشعب الفلسطيني، مطلوب منها الثقة بهذا الشعب وقدرته المدهشة على المبادرة والتضحية والصمود وعدم ربط حقوقه ونضاله أو خياراته السياسية بأية معادلات مالية.

هذا يعني أنّ الوقت قد حان للعودة لقوانين حركات التحرّر في بناء التحالفات، فموقع وموضع فلسطين هناك حيث قوى المقاومة وحيث نبض وحركة الشارع العربي وليس حيث الأنظمة والحكومات المهزومة التي كان لها الدور الأكبر في تشجيع ترامب على اتخاذ قراره الأخير بشأن القدس.

هذا يعني أن تستعيد فلسطين مكانها كدرة محور المقاومة العربي…

لقد أنصف السيد حسن نصرالله في كلمته الأخيرة 11 كانون الأول 2017 شعب فلسطين حين قدّمه كمعلم للمقاومة، هذا يتطلب أن تتحمّل القوى السياسية الفلسطينية مسؤوليتها وأن تكون فعلاً وقولاً رأس الحربة في المواجهة، حينها سينتظم في دروب المقاومة من أجل فلسطين كلّ من يؤمن بهذا الخيار مهما كان الثمن.

وهنا نحن لا نتحدث عن أوهام، فقد شاهدنا كيف أنّ القدس وفلسطين تقيمان في ضمير كلّ مواطن عربي من المحيط إلى الخليج، تلك هي الأمة العربية وليس عربان النذالة والإسفاف والهبوط، هذه هي الشعوب أو الشعب العربي وليس من يرى في الأوطان مزرعة أو كازينو للمقامرة.

الارتقاء إلى مستوى فلسطين والقدس مشروط بمغادرة القيادة الفلسطينية أولاً الرهان على المفاوضات كوسيلة وحيدة لاستحقاق الحقوق، كما يشترط أن تكون الوحدة الوطنية فعلاً ووعياً وثقافة خطاً أحمر يحظر المساس به… لنتذكر أنّ جبهة الخصوم لا تمزح.. فهي تستخدم كلّ قوّتها لتفرض خياراتها ومشاريعها، هذا يستدعي أن يكون الردّ الفلسطيني بمستوى التحدي وأن تردّ جميع القوى السياسية الفلسطينية بأنها جزء عضوي من محور المقاومة بلا غمغمة أو ميوعة أو تردّد، هناك هو موقع فلسطين الطبيعي التي تقاوم منذ 70 عاماً من أجل قضية وحقوق عادلة.

أما بالنسبة لحركة حماس فإنها أيضاً تقف الآن أمام استحقاق تاريخي بالمعنى الفكري والسياسي والعملي، عليها أن تملك الجرأة لكي تنتقد انحرافها السياسي عن بوصلة فلسطين، عليها أن تعود بكلّ ما تعنيه العودة عن خياراتها الخاطئة، عليها أن تتجاوز متاهة الفكر الطائفي حين وجدت نفسها تقف في خندق واحد مع القوى التي تسعى لتصفية قضية فلسطين، عليها أن تقف بجرأة وشجاعة وأن تعترف بأنّ ما قامت به في سورية كان خطيئة كبرى، فسورية هي توأم فلسطين، فليتخيّل كلّ مواطن فلسطيني كيف سيكون الوضع والحال لو أنّ دمشق سقطت في براثن القتلة الطائفيين الذين حشدتهم وسلّحتهم وموّلتهم وأدارتهم الولايات المتحدة و»إسرائيل» وممالك النفط والرمال…

على حركة حماس أن تعي أنّ قوّتها تكمن في فلسطينيتها وليس في انتمائها الطائفي، لقد كان هذا بالضبط الجوهر العميق لكلمة السيد حسن نصرالله اليوم في بيروت، وهذا كان بالضبط المعنى العميق لاتصال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني بكتائب القسام وسرايا القدس.

أما بالنسبة لقوى اليسار الفلسطيني فهي أيضاً مطالبة بأن تتجاوز أزماتها والتباساتها، وأن تستعيد ثقتها بذاتها وبخياراتها السياسية والفكرية والثقافية والنضالية، وأن لا تساوم على هويتها الأيديولوجية مطلقاً، مطلوب منها أن تعيد التأكيد على خياراتها القومية والكفاحية والطبقية الاجتماعية، والأهمّ أن تخوض في ميادين المواجهة، وأن لا تستسلم لموازين القوى.

إذا أرادت فلسطين أن تستعيد ذاتها فعليها أن تقود، عليها أن تحدّد خيارها بدون أيّ غموض أو ميوعة، فالثمن هنا دم وتضحيات وشهداء.

وبكلمة… إنّ على القوى السياسية الفلسطينية أن تعيد بناء ذاتها واستراتيجياتها بعيداً عن أية رهانات أو تحالفات مشبوهة ومغلوطة.

لقد ارتقى السيد حسن نصرالله في كلمته، وكعادته، إلى مستوى التحديات والواجب الوطني والقومي والأخلاقي، فوضع الجميع أمام المهام وشروط المقاومة العلمية، حين دعا إلى «التئام محور المقاومة بكامله بعد السنوات العجاف لوضع استراتيجية موحدة وخطة عملانية واضحة»، ثم أضاف «ثقوا بمحور المقاومة الذي ما دخل ميداناً إلا وانتصر ونقل الأمة من عصر الهزائم إلى عصر الانتصارات». وهنا نحن لا نتحدث عن خطاب مستهلك أو معلب بل نستمع إلى قائد مقاوم لم تنحرف بوصلته مطلقاً، نستمع إلى قائد يحقق الانتصارات، قائد تحسب له «إسرائيل» ألف حساب فتحلل كلّ كلمة يقولها وكلّ حركة يقوم بها، هذا القائد القومي العروبي يقول لنا: ها نحن، محور المقاومة الممتدّ من طهران إلى بغداد وسورية بيروت وصنعاء، معكم وكلّ طاقاتنا من أجل فلسطين.. فهل ستكون القوى السياسية الفلسطينية بمستوى هذا الاستحقاق والتحدي!؟

حين نتحدث عن محور المقاومة فإننا لا نتحدث عن فرضيات وأوهام، بل عن قوى واضحة خرجت منتصرة من أتون صراع دام ومدمّر امتدّ على مدار سبع سنوات، أرادت منه أميركا و»إسرائيل» والرجعيات العربية أن يغرق المنطقة بحروب طائفية لا نهاية لها… ورغم ذلك فقد خرج محور المقاومة من هذه التجربة أكثر بأساً وخبرة ووضوحاً…

لقد كان الهدف من كلّ ما شهدته المنطقة من تدمير ومن إشغال بالفكر والتمزيق الطائفي حراسة المشروع الصهيوني… لهذا فإنّ انتصار محور المقاومة هو نقلة كبرى في مواجهة هذا المشروع.

واليوم، وبعد أن وجّه ترامب بإعلان القدس عاصمة لـ»إسرائيل» صفعة قاسية ومهينة لكلّ من راهن على التسويات والمفاوضات والتطبيع وتقديم التنازلات، فإنه قد فتح الأبواب على مصاريعها لكي تعيد قوى المقاومة وعي ذاتها ومهامها وأدوارها…

لهذا فإنّ الشرط الحاسم لمواجهة قرار ترامب هو في أن تنهض القوى الفلسطينية وأن تكون بمستوى المهمة والتحدّي وبمستوى إرادة الشعب الفلسطيني… حينها سيدرك ترامب وتدرك «إسرائيل» حجم الخطأ التاريخي الذي ارتكباه.

هذا يعني بالضرورة القطع الحاسم مع الاستراتيجيات التي أوصلت الشعب الفلسطيني لما وصل إليه، وأن يتمّ اعتماد استراتيجية وطنية بحيث تكون فلسطين وقواها السياسية في مركز محور المقاومة، وفي هذا السياق يتمّ اعتماد التكتيكات ووسائل النضال الملائمة.

إذن هي لحظة تاريخية فاصلة لكي تستعيد المقاومة الفلسطينة بهجتها… فتستعيد القدس عروبتها البهية، وتعود فلسطين لتقرّر المصائر، وتحدّد مَن الصديق ومَن العدو في هذا العالم العربي الممتدّ من المحيط إلى الخليج.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى